قيمته العالية بين كتب التفسير وعند جميع المفسِّرين، وذلك راجع إلى أن مؤلفه أضفى عليه من روحه العلمية الفيّاضة ما أكسبه دقة، ورواجاً، وقبولاً. وقد لخصه مؤلفه - كما يقول ابن خلدون فى مقدمته - من كتب التفاسير كلها - أى تفاسير المنقول - وتحرَّى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك فى كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس، حسن المنحى".
والحق أن ابن عطية أحسن فى هذا التفسير وأبدع، حتى طار صيته كل مطار، وصار أصدق شاهد لمؤلفه بإمامته فى العربية وغيرها من النواحى العلمية المختلفة، ومع هذه الشهرة الواسعة لهذا الكتاب فإنه لا يزال مخطوطاً إلى اليوم، وهو يقع فى عشر مجلدات كبار، ويوجد منه فى دار الكتب المصرية أربعة أجزاء فقط: الجزء الثالث، والخامس، والثامن، والعاشر. وقد رجعتُ إلى هذه الأجزاء وقرأتُ منها ما شاء الله أن أقرأ، فوجدتُ المؤلف يذكر الآية ثم يفسِّرها بعبارة عذبة سهلة، ويورد من التفسير المأثور ويختار منه فى غير إكثار، وينقل عن ابن جرير الطبرى كثيراً، ويناقش المنقول عنه أحياناً، كما يناقش ما ينقله عن غير ابن جرير ويرد عليه. وهو كثير الاستشهاد بالشعر العربى، مَعْنِى بالشواهد الأدبية للعبارات، كما أنه يحتكم إلى اللغة العربية عندما يُوجه بعض المعانى، وهو كثير الاهتمام بالصناعة النحوية، كما أنه يتعرض كثيراً للقراءات ويُنزل عليها المعانى المختلفة.
ونجد أبا حيان فى مقدمة تفسيره يعقد مقارنة بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشرى فيقول: "وكتاب ابن عطية أنقل، وأجمع، وأخلص، وكتاب الزمخشرى ألخص، وأغوص".
ونجد ابن تيمية يعقد مقارنة بين الكتابين - كتاب ابن عطية وكتاب الزمخشرى - فى فتاواه فيقول: "وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشرى، وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير". كما يعقد مثل هذه المقارنة فى مقدمته فى أصول التفسير فيقول: "وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسُّنَّة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشرى، ولو ذكر كلام السَلَف الموجود فى التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيراً ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبرى - وهو من أجَّلِ التفاسير وأعظمها قدراً - ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السَلَف لا يحكيه بحَال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعنى بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا


الصفحة التالية
Icon