سماعها من غيره، فكيف شأن غيرهما من الصحابة؟ لا شك أن كثيراً منهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى للآية، فيكفيهم - مثلاً - أن يعلموا من قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾ أنه تعداد للنِعمَ التى أنعم الله بها عليهم، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معنى الآية تفصيلاً ما دام المراد واضحاً جلياً.
وماذا يقول ابن خلدون فيما رواه البخارى، من أن عدى بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر﴾.. [البقرة: ١٨٧] وبلغ من أمره أن أخذ عقالاً أبيض وعقالاً أسود، فلما كان بعض الليل، نظر إليهما فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول بشأنه، فعرَّض بقلة فهمه، وأفهمه المراد.
الحق أن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا يتفاوتون فى القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه، وذلك راجع - كما تقدَّم - إلى اختلافهم فى أدوات الفهم، فقد كانوا يتفاوتون فى العلم بلغتهم، فمنهم من كان واسع الاطلاع فيها ملِّماً بغريبها، ومنهم دون ذلك، ومنهم مَن كان يلازم النبى ﷺ فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه غيره، أضف إلى هذا وذاك أن الصحابة لم يكونوا فى درجتهم العلمية ومواهبهم العقلية سواء، بل كانوا مختلفين فى ذلك اختلافاً عظيماً.
قال مسروق: "جالست أصحاب محمد ﷺ فوجدتهم كالإخاذ - يعنى الغدير - فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين، والإخاذ يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم".
هذا.. وقد قال ابن قتيبة - وهو ممن تقدَّم على ابن خلدون بقرون -: "إن العرب لا تستوى فى المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل فى ذلك على بعض". ويظهر أن ابن خلدون قد شعر بذلك فصرَّح به فيما أورده بعد عبارته السابقة بقليل حيث قال: "وكان النبى ﷺ يُبيِّن المجمل، ويُميِّز الناسخ من المنسوخ، ويُعرِّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه".. وهذا تصريح منه بأن العرب كان لا يكفيهم فى معرفة معانى القرآن معرفتهم بلغته، بل كانوا فى كثير من الأحيان بحاجة إلى توقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم.