ذكره من التفرقة بين لفظ: "نصر" ولفظ: "عزَّر" من أن الأول يقوم على أساس أخلاقى تهذيبى، والثانى يقوم على أساس من المساعدة المادية، لا يقوم على أساس من الفقه اللغوى.
ويقول الكاتب فى صفحة (١٩، ٢٠) من الكتاب نفسه: "وأحب أن أهتم هنا ببعض ما ذكرته من هذه القراءات، لما فيه من طابع خاص ذى مبادئ جوهرية، فبعض هذه الاختلافات ترجع أسبابها إلى الخوف من أن تُنسب إلى الله ورسوله عبارات قد يلاحظ فيها بعض أصحاب وجوه النظر الخاصة بما يمس الذات الإلهية العالية إلى الرسول، أو مما يرى أنه غير لائق بالمقام. وهنا تغيرت القراءات من هذه الناحية بسبب هذه الأفكار التنزيهية".. ثم ضرب لذلك أمثلة فقال: "ففى سورة آل عمران آية [١٨] :﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾.. فقد فهم أن هناك ما يصطدم بشهادة الله نفسه على قدم المساواة مع الملائكة وأُولى العلم فقرأ بعضهم: "شهداء الله" وبهذا يكون الكلام ملتئماً مع الآية المتقدمة: "الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار، شهداء الله: أنه لا إله إلا هو والملائكة وأُولوا العلم" اهـ.
والمتأمل أدنى تأمل أن هذا الوهم الذى ادَّعى حصوله من القراءة الأولى لا يمكن أن يدور بخلد عاقل، ولم نر أحداً من العلماء خطر له هذا الإيهام، فشهادة الله مع الملائكة لا غبار عليها، ولا تفيد مساواته لمن ذُكِروا معه.
ويقول فى صفحة (٢١، ٢٢) : وفى سورة العنكبوت آيتى [٢-٣] :﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾.. فقوله تعالى: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ قد يوحى إلى النفس أن الله قد علم ذلك أولاً عند الفتنة كأنه لم يكن يعلم بذلك فى الأزل، ويظهر أن مثل هذا الظن قد أدَّى إلى قراءة على والزهرى: "فَليُعْلِمَنَّ" من الإعلام، بمعنى: فليُعَرِّفَنَّ اللهُ الناس أخلاق هؤلاء وهؤلاء، أو بمعنى ليَسِمَنَّهم بعلامة يُعرفون بها، من بياض الوجوه وسوادها، وكحل العيون وزرقتها. وزرقة العيون عند العرب علامة على القبح والغدر، وأحياناً على الحسد" اهـ.
وللرد على هذا نقول: إن الله تعالى لا يعلم الشيء موجوداً إلا بعد وجوده، فتعلق علمه بالحادث باعتبار أنه حدث حادث، وهذا لا ينافى كونه عالماً من الأزل بالشئ قبل وقوعه، فالكاتب ظن أن العلم المترتب على الفتنة هو العلم الأزلى، ونسى علم الانكشاف والظهور، فبنى على هذا أن مَن قرأ: "فليُعلِمن" من الإعلام، قرأ بها فراراً مما تفيده القراءة الأولى، وهذا قول باطل، ولا يخفى على صحابة رسول الله ﷺ أن


الصفحة التالية
Icon