عن بيان كل آية منه، بمقتضى أمر الله له فى الآية: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.
وأما الدليل الثالث، فول سلَّمنا أنه يدل على أن النبى ﷺ لم يُفسِّر كل معانى القرآن. فلا نُسلِّم أنه يدل على أنه فسَّر النادر منه كما هو المدّعى.
* *
*اختيارنا فى المسألة:
والرأى الذى تميل إليه النفس - بعد أن اتضح لنا مغالاة كل فريق فى دعواه وعدم صلاحية الأدلة لإثبات المُدَّعى - هو أن نتوسط بين الرأيين فنقول: إن الرسول ﷺ بيَّن الكثير من معانى القرآن لأصحابه، كما تشهد بذلك كتب الصحاح، ولم يُبيِّن كل معانى القرآن، لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعُذر أحد فى جهالته كما صرّح بذلك ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير، قال: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله".
وبدهى أن رسول الله ﷺ لم يفسِّر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسِّر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته وهو الذى لا يُعرفه أحد بجهله، لأنه لا يخفى على أحد، ولم يفسِّر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وغير ذلك من كل ما يجرى مجرى الغيوب التى لم يُطلع الله عليها نبيه، وإنما فسَّر لهم رسول الله ﷺ بعض المغيبات التى أخفاها الله عنهم وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم، وفسَّر لهم أيضاً كثيراً مما يندرج تحت القسم الثالث، وهو ما يعلمه العلماء يرجع إلى اجتهادهم، كبيان المجمل، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل، وما إلى ذلك من كل ما خفى معناه والتبس المراد به.
هذا.. وإنَّ مما يؤيد أن النبى عليه الصلاة والسلام لم يُفسِّر كل معانى القرآن، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقع بينهم الاختلاف فى تأويل بعض الآيات، ولو كان عندهم فيه نص عن رسول الله ﷺ ما وقع هذا الاختلاف، أو لارتفع بعد الوقوف على النص.
بقى بعد هذا أن نجيب عن الشق الثانى من السؤال، وهو: على أى وجه كان بيان رسول الله ﷺ للقرآن؟ فنقول:
إنَّ الناظر فى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة يجد فيهما ما يدل على أن رسول الله ﷺ وظيفته البيان لكتاب الله، أو بعبارة أخرى، ما يدل على أن مركز السُّنَّة النبوية من القرآن، مركز المبيِّن من المبيَّن.