*رد هذا الاتهام:
والحق أن هذا غلو فى الرأى، وبُعْدٌ عن الصواب، فابن عباس - كما قلت آنفاً - وغيره من الصحابة، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، ولكن لم يكن سؤالهم عن شئ يمس العقيدة. أو يتصل بأُصول الدين أو فروعه، وإنما كانوا يسألون أهل الكتاب عن بعض القصص والأخبار الماضية، ولم يكونوا يقبلون كل ما يُروى لهم على أنه صواب لا يتطرق إليه شك، بل كانوا يُحكِّمون دينهم وعقلهم، فما اتفق مع الدين والعقل صدَّقوه، وما خالف ذلك نبذوه، وما سكت عنه القرآن واحتمل الصدق والكذب توقَّفوا فيه. وبهذا المسلك يكون الصحابة - رضوان الله عليهم - قد جمعوا بين قوله عليه الصلاة والسلام: "حدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرَجَ"، وقوله: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم" فإن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار، لما فيها من العظة والاعتبار، بدليل قوله بعد ذلك: "فإن فيهم أعاجيب". والثانى محمول على ما إذا كان الُمخْبَر به من قِبَلهم محتملاً، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه، لأنه ربما كان صدقاً فى نفس الأمر فيكون فى التكذيب به حَرَج، وربما كان كذباً فى نفس الأمر فيكون فى التصديق به حَرَج، ولم يرد النهى عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، كما أفاده ابن حجر ونبَّه عليه الشافعى رضى الله عنه - وسيأتى مزيد للكلام عن هذين الحديثين عند الكلام عن الإسرائيليات فى التفسير.
ثم كيف يستبيح ابن عباس رضى الله عنه لنفسه أن يُحدِّث عن بنى إسرائيل بمثل هذا التوسع الذى يجعله مخالفاً لأمر رسول الله ﷺ وقد كان ابن عباس نفسه من أشد الناس نكيراً على ذلك، فقد روى البخارى فى صحيحه عنه أنه قال: "يا معشر المسلمين؛ تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذى أُنزِلَ على نبيه ﷺ أحدث الأخبار بالله، تقرأونه لم يشب، وقد حدَّثكم الله أن أهل الكتاب بدَّلوا ما كتب الله، وغيَّروا بأيديهم الكتاب فقالوا: ﴿هاذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [البقرة: ٧٩].. أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلَم عنِ مسَاءَلتهم، وَلاَ واللهِ مَا رأين رجلاً منهم قط يسألكم عن الذى أُنزِلَ عليكم".
* *
*رجوع ابن عباس إلى الشعر القديم:
كان ابن عباس رضى الله عنه يرجع فى فهم معانى الألفاظ الغريبة التى وردت فى القرآن إلى الشعر الجاهلى، وكان غيره من الصحابة يسلك هذا الطريق فى فهم غريب القرآن، ويحض على الرجوع إلى الشعر العربى القديم، ليُستعان به على فهم معانى