فيقول هو أيضاً: "فيهَ نبأ ما كان قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، مَن تركه من جبار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يَخْلُق على كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه، وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنَّا سمعنا قرآنا عجباً يهدى إلى الرشد، من قال به صدق، ومَن عمل به أُجِر، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه هُدِى إلى صراط مستقيم".
صدَّق المسلمون هذا، وأيقنوا أنه لا شرف إلا والقرآن سبيل إليه، ولا خير إلا وفى آياته دليل عليه، فراحوا يُثَوِّرون القرآن ليقفوا على ما فيه من مواعظ وعبر، وأخذوا يتدبرون فى آياته ليأخذوا من مضمامينها ما فيه سعادة الدنيا وخير والآخرة.
وكان القوم عرباً خلصاً، يفهمون القرآن، ويدركون معانيه ومراميه بمقتضى سليقتهم العربية، فهماً لا تعكره عُجمة، ولا يشوبه تكدير، ولا يشوهه شئ من قبح الابتداع، وتَحَكَّم العقيدة الزائفة الفاسدة.
وكان للقوم وقفات أمام بعض النصوص القرآنية التى دقَّت مراميها، وخفيت معانيها، ولكن لم تطل بهم هذه الوقفات، إذ كانوا يرجعون فى مثل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكشف لهم ما دقَّ عن أفهامهم، ويُجَلِّى لهم ما خفى عن إدراكهم، وهو الذى عليه البيان كما أن عليه البلاغ، والله تعالى يقول له وعنه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.. [النحل: ٤٤].
ظل المسلمون على هذا يفهمون القرآن على حقيقته وصفائه، ويعملون به على بيِّنة من هَدْيه وضيائه، فكانوا من أجل ذلك أعزَّاء لا يقبلون الذل، أقوياء لا يعرفون الضعف، كرماء لا يرضون الضيم، حتى دانت لهم الشعوب وخضعت لهم الدول.
ثم خَلَف من بعدهم خَلْفٌ تفرَّقوا فى الدين شيعاً، وأحدثوا فيه بَدعاً وبِدعاً، وكانت فتن كقطع الليل المظلم، لا خلاص منها إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسُّنَّة رسوله، ولا نجاة من شرِّها إلا بالتمسك بالقرآن، وهو الحبل الذى طرفه بيد الله وطرفه بأيديهم.
وكان من بين المسلمين مَن أهمل هداية القرآن، وركب رأسه فى طريق الغواية، فَلم ينهج هذا المنهج الواضح القويم الذى سلكه سَلَفه الصالح فى فهم القرآن الكريم