عليماً بأنسابهم، متضلعاً فى اللغة العربية، ومن هنا جاءت شهرته فى التفسير. ولقد يشهد لقوة حفظه ما رواه سلام بن مسكين قال: حدثنى عمرو بن عبد الله، قال: قدم قتادة على سعيد بن المسيب فجعل يسأله أياماً وأكثر، فقال له سعيد: أكل ما سألتنى عنه تحفظه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا فقلتَ فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلتَ فيه كذا، وقال فيه الحسن كذا، حتى رد عليه حديثاً كثيراً، قال: فقال سعيد: ما كنتُ أظن أن الله خلق مثلك. وقد شهد له ابن سيرين بقوة الحافظة أيضاً، فقال: قتادة هو أحفظ الناس.
وكان قتادة على مبلغ عظيم من العلم فوق ما اشتُهِر به من معرفته لتفسير كتاب الله. حتى قدَّمه بعضهم على كثير من أقرانه، وجعل بعضهم من النادر تقدم غيره عليه. وقال فيه سعيد بن المسيب: ما أتانى عراقى أحسن من قتادة. وقال معمر للزهرى: قتادة أعلم عندك أم مكحول؟ قال: بل قتادة. وقال أبو حاتم: سمعت أحمد بن حنبل وذُكِر قتادة، فأطنب فى ذكره، فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير، ووصفه بالحفظ والفقه، وقال: قلَّما تجد مَن تقدَّمه، أما المثل فلعل. وقال معمر: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: ١٣] فلم يجبنى، فقلت: سمعت قتادة يقول: مطيقين، فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عمرو؟ فقال: حسبك قتادة، ولولا كلامه فى القَدَر - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذُكِرَ القَدَر فأمسكوا" - ما عدلت به أحداً من أهل دهره".
وهذا يدل على أن أبا عمرو كان يثق بعلم قتادة وبتفسيره للقرآن، لولا ما يَنسب إليه من الخوض فى القضاء والقَدَر، وكثيراً ما تحرَّج بعض الرواة من الرواية عنه لذلك، ونجد أصحاب الصحاح يُخَرِّجون له، ويحتجون بروايته، ويكفينا هذا فى تعديله وتوثيقه: قال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس: الزهرى، ثم قتادة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً حُجَّة فى الحديث، وكان يقول بشئ من القَدَر. وقال ابن حبان فى الثقات: كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حُفَّاظ أهل زمانه.
وكانت وفاته سنة ١١٧ هـ (سبع عشرة ومائة من الهجرة)، وعمره إذ ذاك ست وخمسون سنة على المشهور.
* *
وبعد... فهؤلاء هم مشاهير المفسِّرين من التابعين، وغالب أقوالهم فى التفسير تلقوها عن الصحابة، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وما وراء ذلك فمحض اجتهاد لهم، ولا شك أنهم كانوا على مبلغ عظيم من العلم ودقة الفهم، لقرب


الصفحة التالية
Icon