أما الإباضية فموجودون إلى يومنا هذا، ومذهبهم منتشر فى بلاد المغرب، وحضرموت، وعُمان، وزنجبار.
ولكن بقى بعد هذا سؤال يتردد فى نفسى، ولعله يتردد فى نفس القارئ أيضاً وهو: ما السر فى أن الخوارج قَلَّ إنتاجهم فى التفسير؟
والجواب عن هذا السؤال - كما أعتقد - ينحصر فى أُمور ثلاثة وهي ما يأتى:
أولاً: أن الخوارج كان أكثرهم من عرب البادية، ومن قبائل تميم على الأخص، وقليل منهم كان يسكن البصرة والكوفة مع احتفاظه ببداوته، فكانوا لغلبة البداوة عليهم أبعد الناس عن التطور الدينى، والعلمى، والاجتماعى، وكانوا يمثلون الإسلام الأول فى بساطته، وعلى فطرته، بدون أن تشوبه تعاليم الأُمم الأُخرى. أضف إلى ذلك: احتفاظهم بأهم خصائص أهل البدو من سذاجة التفكير، وضيق التصور، والبُعْد عن التأثر بحضارة الأمم المجاورة لهم.
ثانياً: أنهم شُغِلوا بالحروب من مبدأ نشأتهم. وكانت حروباً قاسية وطويلة، ومتتابعة.. أسلمتهم حروب علىّ إلى حروب الأمويين، وأسلمتهم حروب الأمويين إلى حروب العباسيين التى تركتهم في حالة تشبه الاحتضار، وتؤذن بالفناء، فكان من الطبيعى أن لا تدع الحرب لهم من الوقت ما يتسع للبحث والتصنيف.
ثالثاً: أن الخوارج - مع ما هم عليه من شذوذ - كانوا يخلصون لعقيدتهم، ويتمسكون بإيمانهم إلى حد كبير، ويرون أن الكذب جريمة من أكبر الجرائم، وبه - عند جمهورهم - يخرج الإنسان من عِداد المؤمنين - فلعل هذا دعاهم إلى عدم الخوض في تفسير القرآن، وجعلهم يتورعون عن البحث وراء معانيه، مخافة أن لا يصيبوا الحق فيكونوا قد كذبوا على الله.. وقد سُئِل بعضهم: لِمَ لَمْ تُفسِّر القرآن؟ فقال: "كلما رأيت قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين﴾ [الحاقة: ٤٤-٤٦] أحجمت عن التفسير".
من أجل هذا كله لم يكن يُنتظر من الخوراج أن يُؤلِّفوا لنا فى التفسير كما ألفَ غيرهم، وليس التفسير وحده هو الذي حُرِم من تصنيف الخوارج وتأليفهم، بل كل العلوم فى ذلك سواء، وما وُجِد لهم من مؤلفات فى علم الكلام، أو الفقه، أو الأُصول، أو الحديث، أو التفسير، أو غير ذلك من العلوم فكله من عمل الإباضية وحدهم، لأن هذه الفِرْقة هى التى عاشت وانتشرت فى كثير من بلاد المسلمين، واستمرت إلى يومنا هذا، وتأثرت بتعاليم المعتزلة وغيرهم، وسايرت التطور العلمى والاجتماعى.
وبعد.. فهذا هو تراث الخوارج في التفسير، وهو تراث نادر عزيز، وما وُجِد منه أندر وأعز، وأرى أن أكتفى بالكلام عن "هميان الزاد إلى دار المعاد" وحده، وعذرى