وسنرى الجرجاني يعتمد هذه التفرقة بين المعنى واللفظ أساساً لنظريته في النظم، على حين لا نرى اللفظ منفصلاً عن معناه بحيث يمكن أن يصح أحدهما والآخر فاسد، بل يفسد المعنى بفساد لفظه، ولا عبرة عندنا برونق لفظي مع فساد المعنى. ثم إن الخطابي في شرح فكرته في النظم المعجز، يرى من الإعجاز أن تأتي بلاغات القرآن جامعة لطبقات ثلاث متفاوتة من حيث المستوى بعد استبعاد الهجين المذموم. قال:
"والعلة فيه - يعني إعجاز القرآن من جهة البلاغة - أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية: فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة:
"فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه. والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة" ٢٦
والعبارة موهمة، قد يُفهم منها أن في القرآن ما هو من الدرجة العليا في البلاغة وفيه ما هو من أوسطها وأدناها. وذلك مردود عندنا من ناحيتين:
أولاهما: أن فهمنا للإعجاز البياني، فوت لأعلى درجات البلاغة دون أوسطها وأدناها.
والأخرى، أن هذه الدرجات الثلاث لا تجتمع، بالضرورة، في السورة الواحدة، وبسورة واحدة كان التحدي والمعاجزة.
وسبق "الخطابي" أيضاً إلى لمح فروق دقيقة في الدلالة، لألفاظ قرآنية جرت معاجمنا وكتب المفسرين على القول بترادفها مع "ألفاظ أخرى في معناها" مثل: العلم والمعرف، الحمد والشكر، العتق وفك الرقبة، (٢٩: ٣٣)...


الصفحة التالية
Icon