وفي كل ذلك، كان يجادل على طريقة الكلاميين لا البلاغيين. وحسبنا على كل حال، أنه أكد نصره لوجه إعجاز القرآن بفصاحته، وأعطانا مفهوماً محرراً لمعنى النظم: لا يراد به مجردُ طريقة مبتدعة في صياغة الكلام تُباين ما عرف العرب من منظوم ومنثور، وإنما انفرد معها برتبه في الفصاحة عرفها أهلُ التقدم منهم بمجرد سماعه، دون أن يظنوا أن مثل القرآن يُواتى من رامه...
* * *
وجاء "الباقلانى" في أواخر القرن الرابع، فقدم كتابه المشهور في (إعجاز القرآن)، وليس دراسة قرآنية خالصة للإعجاز كما يُفهم من عنوانه وكما تَعدِ مقدمتُه، بل هي أقرب إلى الجدل الكلامي والمذهبي، والنقد الأدبي لنصوص طوال، من الشعر والنثر.
ففي الفصول الأولى، يتصدى الباقلانى لتخطئة أقوال في الإعجاز، رفضها الأشاعرة وهو منهم، ولإبطال زعم من زعموا أن علم وحدانية الله لا يمكن بالقرآن، والرد على زعم المجوس أن بعض كتبهم معجز...
وهو في هذا كله يورد شبهات الخصوم دون ذكر أسمائهم، ويشتد في تجريحهم والطعن عليهم والزراية بهم.
بعد ذلك ينقل عن الأشاعرة ثلاثة أوجه في الإعجاز، فلا يطيل الوقوف عند الأول والثاني منها - الإخبار عن غيب المستقبل، وعن الماضي منذ خلق الله آدم - بل يمر بهما سريعاً كي يخلص للوجه الثالث وهو "بديع نظم القرآن وعجيب تأليفه وتناهيه في البلاغة" فتحسبه قد تجرد للدرس البلاغي لبديع نظم القرآن، لكنه لا يلبث أن يستطرد بين حين وآخر إلى جدل كلامي مُجهِد.
بل إنه فيكا يختص بالفصول البلاغية التي عقدها، لا يفرغ للنظر في أسرار البيان القرآني، وإنما يعمد إلى نقل قصائد وخطب طوال من مختار الشعر والنثر، ويتعجل النقد لما ينقده منها "لكيلا يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن، فتخطفه الطير أو تَهوِى به الريح في مكان سحيق".