"وإذا تأملت على ما هديناك إليه ووقفناك عليه، فانظر هل تجد وقع هذا النور في قلبك واشتماله على لبَّك وسريانَه في حسك ونفوذه في عروقك، وامتلاءك به إيقاناً وإحاطة، واهتداءك به إيماناً وبصيرة؟ أم هل تجد الرعب يأخذ منك مأخذه من وجه، والهزة تعمل في جوانبك من لون، والأريحية تستولى عليك من باب؟ وهل تجد الطرب يستفزك للِطيفِ ما فطنتَ له، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك عزة، وفي أعطافك ارتياحاً وهزة، وترى لك في الفضل تقدماً وتبريزاً وفي اليقين سبقاً وتحقيقاً، وترى بالعين التي يجب أن تلحظ بها، ومراتبهم بحيث أن ترتبها؟
"هذا كله في تأمل الكلام ونظامه وعجيب معانيه وأحكامه. فإن جئت إلى ما نبسط في العالم من بركته وأنواره، وتمكن في الآفاق من يمينه وأضوائه، وثبت في القلوب من إكباره وإعظامه.. فهل يدلك هذا على عظيم شأنه وراجح ميزانه وعالي مكانه؟ - ٣٠٨
"ونظم القرآن في مؤتلفة ومختلفة، وفي فصله ووصله، وافتتاحه واختتامه، وفي كل نهج يسلكه وطريق يأخذ فيه وباب يتهجم عليه ووجه يؤمه، على ما وصفه الله تعالى به لا يتفاوت: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾
"وغيره من الكلام كثير التلون دائم التغير، يقف بك على بديع مستحين ويعقبه بقبيح مستهجن، ويطلع عليك بوجه الحسناء ثم يعرض للهُجْرِ بخَدَّ القبيحة الشوهاء، ويأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التي هي كاللآلي الزهر، وقد يأتيك باللفظة الحسنة بين الكلمات البهم، وقد يقع إليك منه الكلام المثبج، والنظم المشوش والحديث المشوه - ٣١٤.
"وعلى هذا فقِسْ بحثك عن شرف الكلام وماله من علو الشأن، لا يطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلا انشرح، ولا يذهب مذهباً إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلا بلغ فيه السماء. لا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى