الفصحى أن العرب الفصحاء ليسوا سواء في المقدرة البيانية والمرتبة البلاغية.
وليس الأمر في إعجاز القرآن أن يتوهم كل فرد القدرة على الإتيان بمثله ثم يعجز، أو "أن يكون الرجوع فيه إلى جملة الفصحاء دون الآحاد" كنص عبارة الباقلانى.
بل العبرة فيه إنهم جميعاً فصحاء قادرون على أن يدركوا فوت البيان القرآني بلاغَة بلغائهم، وفي هذا أيضاً أرى الباقلانى قد اختلط عليه الفرق بين المعجزة وبين التحدي.
فمن حيث هو معجز. الأمر فيه واضح لكل ذي سليقة عربية أصلية. وإدراكُ إعجازه كان ميسراً لهم جميعاً في عصر المبعث لا ينفرد به خاصة بلغائهم دون العامة. وما تلا المصطفى عليه الصلاة والسلام آيات معجزته وهو يُقدر أن البلغاء وحدهم هم الذين يدركون إعجازهم.
وأما من حيث تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، فتلك قضية أخرى معروضة على أبلغ بلغائهم ومن يظاهرونهم من جِِنَّ فيما زعموا، على ما يأتي بيان ذلك بتفصيل في قضية التحدي والمعاجزة.
ونوجز القول هنا في إيضاح الفرق بين إدراك المعجزة وبين التحدي، فنلفت إلى أن الشاعر العربي كان يقول قصيدته فيتلقاها جمهور المستمعين بالإعجاب والتقدير أو الصد والتهاون. وأما أن يعارضها آخر منهم، فذلك محصور في أقرانه من الشعراء لا يعدوهم إلى عامة القوم.
* * *
والمشركون من قريش حين كانوا يأخذون سُبُلَ الحاج إلى مكة ليصرفوهم عن سماع القرآن، لم يكونوا يتحرون الخطباء البلغاء والشعراء الفحول منهم أو يُقدرون أن الوافدين على الموسم كانوا سواء في المرتبة البلاغية، بل التقدير أنهم جميعاً عرب خُلص فحاء يجدون حس لغتهم فطرة وطبعاً ويميزون


الصفحة التالية
Icon