ذلك "أما قد علمنا عجز سائر أهل الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول. والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، والتنافس في الطباع على حد واحد، والتكليف على منهاج لا يختلف".
وأخشى أني أظلم القاضي الباقلانى بنقل فقرات من كلامه قد أراها تحدد موقفاً له من قضيتي الإعجاز والتحدي، فالحق أنني ما أكاد أستبين له رأياً في فقرة أنقلها من كلامه، حتى يبدو لي في فقرة أخرى، تالية، غير ما فهمتُه من الفقرة قبلها.
وأحسبه ما تحير في موقفه إلا لأنه لم يفصل بين الإعجاز باقياً أبداً ملزماً للناس جميعاً على اختلاف العصور وامتداد الزمن، وبين التحدي للعرب المشركين في عصر المبعث، قد حسمه عجزهم عن أن يأتوا بمثله، وفيهم أمراء البيان ومن يظاهرهم من جن فيما زعموا.
وكان "عبد القاهر الجرجاني" أجلى موقفاً وأوضح مسلكاً في بيانه لوجه اختصاص العرب في عصر المبعث بالتحدي، لا يعني اختصاصهم بالإعجاز، بل يعني أن ثبوت عجزهم عن الإتيان بمثله، قاطع الدلالة على عجز سواهم، ومن ثم يكون هذا العجز حاسماً لقضية التحدي، وأما الإعجاز فيبقى قائماً ما بقى الدهر.
قال في مقدمة رسالته (الشافية) :
"معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاصيل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضاً، وأن عِلْمَ ذلك علمٌ يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب - في لسانهم - ومن عداهم تبع لهم وقاصر فيه عنهم، وأنه لا يجوز أن يُدَّعَى للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي - ﷺ -، الذي نزل فيه الوحي وكان فيه