الجواب عنه من وجوه: أن "كتب" بمعنى أمر الله لكم بدخولها.
الثاني: اللفظ عام للمخاطبين، والمراد به البعض، وقد دخلها بعضهم.
وقيل: معنى كتبها، وهبها، أي وهبها لكم إن آمنتم فأطعتم.
وقيل: وهبها لهم، فلما عصوا، حرموا، وقيل: التحريم مقيد بأربعين سنة.
قوله: (قَوْمًا جَبَّارِينَ).
أي ممتنعين من أن يقهرو" أو يغلبوا، وقيل: طوال الأجسام، وقيل: من
جبرت الشيء، أي أصلحته، وقيل: هو مشبه بالجبّار من النخل، وهو الذي لا ينال ما عليه لطوله، وذلك أن موسى - عليه السلام - بعث اثنا عشر نقيبا ليتفحصوا أحوالهم وليتجسسوا أخبارهم، فلما رأوهم على ما كانوا عليه عاهدوا ألا يخبروا قومهم بما رأوا كيلا يجبنوا عن لقائهم، فخالفوا وأخبر كل واحد منهم سبطه بما رأى، إلا رجلان: يوشع بن نون، وكالوب بن نوقيا.
العجيب: ما ذكره بعض المفسرين: أنه لقيهم رجل من الجبارين
يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة
وثلاث وثلاثين وثلث ذراع. حكاه الثعلبي، والعهدة عليه.
العجيب: تقييده بثلث ذراع.
وقال الثعلبي أيضاً: كان يتحجز بالسحاب، أي يبلغ السحاب منه مبلغ
خجْزة السراويل، ويشرب من السحاب ويتناول الحوت من قرار البحر.
ويشويه بعين الشمس يرفعه إليها، ثم يأكله، قال: ولم يبلغ الماء زمن طوفان
نوح ركبتي عوج، وكانت أمه إحدى بنات آدم، مجلسها من الأرض جريب

(١) قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ومن الإسرائيليات الظاهرة البطلان، التي ولِعَ بذكرها بعض المفسرين والأخباريين، عند ذكر الجبارين: قصة عوج بن عوق، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع، وأنه كان يمسك الحوت، فيشويه في عين الشمس، وأن طوفان نوح لم يصل إلى ركبتيه، وأنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح، وأن موسى كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع، ووثب في الهواء عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل سنة إلى نحو ذلك من الخرافات، والأباطيل التي تصادم العقل والنقل، وتخالف سنن الله في الخليقة، ولا أدري كيف يتفق هذا الباطل، هو وقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
اللهم إلا إذا كان عوج أطول من جبال الأرض!!
فمن تلك الرويات الباطلة المخترعة: ما رواه ابن جرير بسنده عن أسباط، عن السدي، في قصة ذكرها من أمر موسى وبني إسرائيل وبعث موسى النقباء الاثني عشر.
وفيها: فلقيهم رجل من الجبارين يقال له: عوج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته، وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: بل خلِّ عنهم، حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، وكذلك ذكر مثل هذا وأشنع منه غير ابن جرير والسيوطي بعض المفسرين، والقصصيين وهي كما قال ابن قتيبة: أحاديث خرافة، كانت مشهورة في الجاهلية، ألصقت بالحديث بقصد الإفساد.
وإليك ما ذكره الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في تفسيره، قال: وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا، وثلث ذراع، تحرير الحساب، وهذا شيء يستحيى من ذكره ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله خلق آدم، وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن"، ثم ذكروا: أن هذا الرجل كان كافرًا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه، وهذا كذب وافتراء؛ فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ﴾.
وقال تعالى: ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِم﴾، وإذا كان ابن نوحٍ الكافرُ غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر، وولد زينة؟! هذا لا يسوغ في عقل، ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له: عوج ابن عنق نظر، والله أعلم.
وقال العلامة ابن قيم الجوزية، بعد أن ذكر حديث عوج: "وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث، وكذب على الله، وإنما العجب ممن يدخل هذا في كتب العلم من التفسير وغيره، فكل ذلك من وضْع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء، والسخرية بالرسل وأتباعهم، أقول: وسواء أكان عوج بن عوق شخصية وجدت حقيقة، أو شخصية خيالية: فالذي ننكره هو: ما أضفوه عليه من صفات وما حاكوه حوله من أثواب الزور والكذب والتجرؤ على أن يفسر كتاب الله بهذا الهراء، وليس في نص القرآن ما يشير إلى ما حكوه وذكروه، ولو من بعد، أو على وجه الاحتمال، ثم أين زمن نوح من زمن موسى عليهما السلام وما يدل عليه آية: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾ كان في زمن موسى قطعًا، ولا مرية في هذا فهل طالت الحياة بعوق حتى زمن موسى؟! بل قالوا: إن موسى هو الذي قتله، ألا لعن الله اليهود، فكم من علم أفسدوا، وكم من خرافات وأباطيل وضعوا اهـ (الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير صـ ١٨٥ ـ ١٨٧)


الصفحة التالية
Icon