وَالْقَوْلُ الثَّامِنُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأحزاب: ٣٨] كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ شَاءَ بِغَيْرِ عَدَدٍ مَحْظُورٍ كَمَا كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ» فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ كَانَ عِنْدَهَا أَنَّهُ حُظِرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّزَوُّجُ ثُمَّ أُطْلِقَ لَهُ وَأُبِيحَ وَكَانَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ أَنْ يَنْسَخَ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ -[٦٢٩]- حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: " لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ شَاءَ إِلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأحزاب: ٥١] " وَهَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ وَهُوَ وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَاحِدٌ فِي النَّسْخِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ أَرَادَتْ أَحَلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكِ وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ فَقَالَ مُحَالٌ أَنْ تَنْسَخَ هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأحزاب: ٥١] ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ [الأحزاب: ٥٢] وَهِيَ قَبْلَهَا فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَقَوَّى قَوْلَ مَنْ قَالَ نُسِخَتْ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ -[٦٣٠]- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ لَا تَلْزَمُ وَقَائِلُهَا غَالِطٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بِمَنْزِلَةِ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ» وَيُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ اعْتِرَاضَ هَذَا لَا يَلْزَمُ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: ٢٤٠] مَنْسُوخَةٌ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُظِرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى نِسَائِهِ لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَعُوِّضْنَ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَهَذَا الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا ثُمَّ نُسِخَ فَإِنْ قَالَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مَا كَانَ ثَوَابًا قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مَا كَانَ ثَوَابًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الثَّوَابِ فَيَكُونُ هَذَا نَسْخٌ وَعِوَضٌ مِنْهُ أَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْجَنَّةِ فَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَجَلُّ مِقْدَارًا كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِامْرَأَتِهِ: «لَا تَزَوَّجِي بَعْدِي فَإِنَّ آخِرَ أَزْوَاجِ الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا فِي الْجَنَّةِ» -[٦٣١]-، ولِذَلِكَ حُظِرَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الصِّفَةِ قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ -[٦٣٢]- وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ الْمُسْلِمَاتِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ قَالَ مُجَاهِدٌ: «لِئَلَّا تَكُونَ كَافِرَةٌ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ. هَذَا الْقَوْلُ يَبْعُدُ لِأَنَّهُ يُقَدِّرُهُ مِنْ بَعْدِ الْمُسْلِمَاتِ وَلَمْ يَجْرِ لِلْمُسْلِمَاتِ ذِكْرٌ» وَالْقَوْلُ السَّابِعُ: إِنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ بِيَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ [الأحزاب: ٥٢] وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا أَنْ تُبَادِلَ وَحَكَى ابْنُ زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ، أَنَّهَا كَانَتْ تُبَادِلُ بِأَزْوَاجِهَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ خُذْ زَوْجَتِي وَأَعْطِنِي زَوْجَتَكَ وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّاقِلِينَ لِأَفْعَالِ الْعَرَبِ -[٦٣٣]- وَالْقَوْلُ الثَّامِنُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ حَلَالٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: وَكَذَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعَمِائَةِ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ مَمْلُوكَةٍ فَذَلِكَ أَلْفٌ وَكَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيْمَانَ امْرَأَةُ أُورِيَاءَ بْنِ حَنَانٍ -[٦٣٥]- وَقَالَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ: " لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغُلٌ إِلَّا التَّزَوُّجُ فَحَسَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤] كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلْفُ امْرَأَةٍ مِنْهَا سَبْعُمِائَةِ حُرَّةٍ وَكَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ "