قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَا وَلَايَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُهَاجِرَ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى يُفْهَمُ مِنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [٩ ٧١]. فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَلَايَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَظَاهِرُهَا الْعُمُومُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْفِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ هِيَ وَلَايَةُ الْمِيرَاثِ، أَيْ مَا لَكُمْ شَيْءٌ مِنْ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرِثَهُ أَخُوهُ الْأَنْصَارِيُّ دُونَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ، حَتَّى نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ الْآيَةَ [٨].
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَبُو حَيَّانَ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْوَلَايَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَايَةُ النَّصْرِ وَالْمُؤَازَرَةِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّعَاضُدِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا أُصِيبَ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
وَهَذِهِ الْوَلَايَةُ لَمْ تُقْصَدْ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ بِدَلِيلِ تَصْرِيحِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ يَلِيهِ: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ الْآيَةَ [٨]، فَأَثْبَتَ وَلَايَةَ النَّصْرِ بَيْنَهُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْفِيَّةَ غَيْرُ وَلَايَةِ النَّصْرِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْفِيَّةَ غَيْرَ الْمُثْبَتَةِ، فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ.
الثَّانِي: هُوَ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يَعْنِي