وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ هُوَ عُذْرُهُمْ بِالْفَتْرَةِ وَامْتِحَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَمْرِ بِاقْتِحَامِ نَارٍ فَمَنِ اقْتَحَمَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ امْتَنَعَ عُذِّبَ بِالنَّارِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ.
وَبِهَذَا الْجَمْعِ تَتَّفِقُ الْأَدِلَّةُ فَيَكُونُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مَعْذُورِينَ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَهُ أَيْضًا، وَيُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ عَلِمَ اللَّهُ مَصِيرَهُمْ، وَأَعْلَمَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَزُولُ التَّعَارُضُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ وُرُودُ الْأَخْبَارِ بِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى عُذْرِهِمْ وَامْتِحَانِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَادًّا عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَضْعِيفَ أَحَادِيثِ عُذْرِهِمْ وَامْتِحَانِهِمْ مَا نَصُّهُ:
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ: إِنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ يَتَقَوَّى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ مُتَّصِلَةً مُتَعَاضِدَةً عُلِمَ هَذَا النَّمَطُ، أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ بِلَفْظِهِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْبَعْضُ لِرَدِّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارُ عَمَلٍ وَابْتِلَاءٍ، فَهُوَ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا تَرِدُ بِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ سَلَّمْنَا عُمُومَ مَنْ قَالَ: مِنْ أَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ عَمَلٍ، لَكَانَتِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ مُخَصِّصَةً لِذَلِكَ الْعُمُومِ.
الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الِامْتِحَانِ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، بَلْ نَقُولُ: دَلَّ الْقَاطِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي سُورَةِ «الْقَلَمِ» بِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ