يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مَوْجُودٍ وَاقِعٍ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْمَجِيءِ عَلَى الْعَدَمِ لَا يُعْقَلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَةَ الْإِضَافِيَّةَ لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بَيْنَ مُتَضَائِفَيْنِ، فَلَا تُدْرَكُ إِلَّا بِإِدْرَاكِهِمَا، فَلَا يُعْقَلُ وُقُوعُ الْمَجِيءِ بِالْفِعْلِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ فَاعِلٍ وَقَعَ مِنْهُ الْمَجِيءُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «جَاءَهُ».
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: فَإِنَّ قَائِلَ: وَكَيْفَ قِيلَ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّرَابُ شَيْئًا، فَعَلَامَ
دَخَلَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ؟.
قِيلَ: إِنَّهُ شَيْءٌ يُرَى مِنْ بَعِيدٍ كَالضَّبَابِ الَّذِي يُرَى كَثِيفًا مِنْ بَعِيدٍ، وَالْهَبَاءِ فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ دَقَّ وَصَارَ كَالْهَوَاءِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْضِعَ السَّرَابِ لَمْ يَجِدِ السَّرَابَ شَيْئًا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السَّرَابِ عَنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهِ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أُظْهِرَ عِنْدِي وَعِنْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ... إلخ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْإِذْنُ لِمَنْ شَاءَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ [٩ ٤٣] يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْإِذْنُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ، كَصَلَاةِ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوِ اجْتِمَاعٍ فِي مَشُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [٢٤ ٦٢].
وَأَمَّا الْإِذْنُ فِي خُصُوصِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، فَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنَّ الْأَوْلَى فِيهِ أَلَّا يُبَادِرَ بِالْإِذْنِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الْكَاذِبِ،