قَبْلُ [٦ ١٥٨].
فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ إِتْيَانِ بَعْضِ الْآيَاتِ مَقْبُولَةٌ مِنْ كَلِّ تَائِبٍ، وَصَرَّحَ تَعَالَى بِدُخُولِ الْمُرْتَدِّينَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُبَاشَرَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [٣ ٨٦ - ٨٩].
فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا رَاجِعٌ إِلَى الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ الْآيَةَ [٢ ٢١٧].
لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ مُطْلَقًا، وَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ عَنْ رُفَيْعٍ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمَا أَصَابُوا مِنَ الذُّنُوبِ فِي كُفْرِهِمْ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي أَصَابُوهَا فِي كُفْرِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا مِنْ كُفْرِهِمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى ارْتِكَابِ الضَّلَالِ وَعَدَمُ قَبُولِهَا حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ.
الثَّانِي: وَهُوَ أَقْرَبُهَا عِنْدِي، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ يَعْنِي إِذْ تَابُوا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ هُوَ الَّذِي يُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَيَتُوبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [٤ ١٨].
فَجُعِلَ التَّائِبُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ سَوَاءً.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا الْآيَةَ [٤٠ ٨٥].
وَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [١٠ ٩١].
فَالْإِطْلَاقُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقَيَّدُ بِقَيْدِ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ