وهكذا كلما درست مواقف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القرآن في هذه المواطن أو غيرها تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن، معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض بل تصدع بالبيان فرقانًا بين الحق والباطل، وميزانًا للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، ورضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا؛ إذ لا تزيدها طاعة الطائعين، ولا تنقصها معصية العاصين. فترى بين المقامين ما بينهما. وشتات ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود.
توقف الرسول -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان:
ولقد كان يجيئه الأمر بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟
موقفه في قضية المحاسبة على النيات:
نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ ١ أزعجت الآية الصحابة إزعاجًا شديدًا، وداخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها -فقالوا: يا رسول الله، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها- فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" ٢ فجعلوا يتضرعون بهذ الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، إلى آخر السورة
٢ رواه مسلم عن أبي هريرة، ك/ الإيمان، ب/ بيان أنه سبحانه وتعالى لا يكلف إلا....... "١٧٩".