ورودًا في جدلهم هي نسبته إلى نفس١ صاحبه، على اضطرابهم في تحديد تلك الحال النفسية التي صدر عنها القرآن: أشعر هي، أم جنون، أم أضغاث أحلام..
فانظر: كم قلَّبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة؛ حتى إنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلام رصين كالقرآن، وفي عقل رصين كعقل صاحبه، بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين.. إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يدلوا بكل الفروض والتقادير مغمضين على ما فيها من محال وناب ونافر، ليثيروا بها غبارًا من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكًا من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين.
ولقد نعلم أنهم كانوا في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضوه من بين
وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله أنه كان صادقًا أمينًا. وأنه كان معذورًا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي؛ لأن أحلامه القوية صورتها له وحيًا إلهيًّا، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم حيث يقول: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو قد سمعها بزعمهم من قبل؟ فليقولوا إذًا: إنه افتراء ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل. ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم يدعون الإنصاف والتعقل. ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون.