﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ ﴾ [آية: ٨] يعني نفخ في الصور، والناقور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وهو الصور ﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ [آية: ٩] يعني مشقته وشدته، ثم أخبر على من عسره، فقال: ﴿ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [آية: ١٠] غير هين، ويهون ذلك على المؤمن كأدنى صلاته ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ [آية: ١١] يعني الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يسمى الوحيد في قومه، وذلك أن الله عز وجل أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم﴿ حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾[غافر: ١-٣].
فلما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام فقرأها والوليد بن المغيرة قريباً منه يستمع إلى قراءته، فلما فطن صلى الله عليه وسلم أن الوليد بن المغيرة يستمع إلى قراءته أعاد النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: ﴿ حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْعَلِيمِ ﴾ بخلقه ﴿ غَافِرِ ٱلذَّنبِ ﴾ لمن تاب من الشرك.
﴿ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ ﴾ لمن تاب من الشرك.
﴿ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ﴾ لمن لم يتب من الشرك ﴿ ذِي ٱلطَّوْلِ ﴾ يعني ذي الغنى عمن لم يوحد، ثم وحد الرب نفسه حين لم يوحدوه كفار مكة، فقال: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ يعني مصير الخلائق في الآخرة إليه، فلما سمعها الوليد انطلق حتى أتى مجلس بني مخزوم، فقال: والله، لقد سمعت من محمد كلاماً آنفاً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وأن أسفله لمعرق، وأن أعلاه لموفق، وأن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأنه ليعلو وما يعلى. ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ الوليد، والله لئن صبأ لتصبون قريش كلها، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق أبو جهل حتى دخل على الوليد، فقعد إليه كشبه الحزين، فقال له الوليد: ما لى أراك يا ابن أخى حزيناً؟ فقال أبو جهل: ما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة ليعينوك على كبرك، ويزعمون أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه، فغضب الوليد عند ذلك، وقال: أو ليس قد علمت قريش أنى من أكثرهم مالاً وولداً، وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام، فيكون لهم فضل؟ فقال أبو جهل: فإنهم يزعمون أنك إنما زينت قول محمد من أجل ذلك. فقام الوليد فانطلق مع أبى جهل، حتى أتى مجلس قومه بنى مخزوم، فقال: تزعمون أن محمداً كاهن، فهل سمعتموه يخبر بما يكون في غد؟ قالوا: اللهم لا، قال: وتزعمون أن محمداً شاعر، فهل رأيتموه ينطق فيكم بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: وتزعمون أن محمداً كذاب، فهل رأيتموه يكذب فيكم قط؟ قالوا: اللهم لا، وكان يسمى محمد صلى الله عليه وسلم قبل النبوة الأمين، فبرأه من هذه المغالة كلها. فقالت قريش: وما هو أبا المغيرة؟ فتفكر في نفسه ما يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم، ثم نظر فيما يقول عنه، ثم عبس وجهه، وبسر يعني وكلح، فذلك قوله عز وجل: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾، وما يقول لمحمد، فقدر له السحر، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَقُتِلَ ﴾ يعني لعن ﴿ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ لمحمد صلى الله عليه وسلم السحر، ثم نظر، ثم عبس، يقول: كلح وبسر، يعني وتغير لونه يعني أعرض عن الإيمان ﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ عنه ﴿ فَقَالَ ﴾ الوليد لقومه: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ ﴾ الذي يقول محمد ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ فقال له قومه وما السحر يا أبا المغيرة؟ وفرحوا، فقال: شىء يكون ببابل إذا تعلمه الإنسان يفرق بين الإثنين ومحمد يأثره، ولما يحذفه بعد وأيم الله، لقد أصاب فيه حاجته أما رأيتموه فرق بين فلان وبين أهله، وبين فلان وبين أبيه، وبين فلان وبين أخيه، وبين فلان وبين مولاه، فهذا الذي يقول محمد سحر يؤثر عن مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب يقول: يرويه عنه، فذلك قوله: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ يقول: إن هذا الذي يقول محمد إلا قول بشر. قال الوليد بن المغيرة: عن يسار أبى فكيهة هو الذي يأتيه به من مسيلمة الكذاب، فجعل الله له سقر، وهو الباب الخامس من جهنم، فلما قال ذلك الوليد شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يشق عليه، فيما قذف بغيره من الكذب، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يعزيه ليصبر على تكذيبهم، فقال: يا محمد﴿ كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾[الذاريات: ٥٢]، وأنزل في الوليد بن المغيرة: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ يقول: خل بينى يا محمد وبين من خلقت وحيداً، يقول: حين لم يكن له مال ولا بنون، يعني خل بينى وبينه، فأنا أتفرد بهلاكه، وأما الوليد، يعني خلقته ليس له شىء، يقول عز وجل فأعطيته المال والولد. فذلك قوله: ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾ [آية: ١٢] يعني بالمال بستانه الذي له بالطائف، والممدود الذي لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفاً، كقوله: ﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ يعني لا ينقطع ﴿ وَبَنِينَ شُهُوداً ﴾ [آية: ١٣] يعني حضوراً لا يغيبون أبداً عنه في تجارة ولا غيرها لكثرة أموالهم بمكة، وكلهم رجال منهم الوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، وهو سيف الله أسلم بعد ذلك، وعمارة بن الوليد، وهشام بن الوليد، والعاص بن الوليد، وقيس بن الوليد، وعبد شمس بن الوليد. ثم قال: ﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾ [آية: ١٤] يقول: بسطت له في المال والولد والخير بسطاً ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴾ [آية: ١٥] لا أزيده بل أقطع ذلك عنه وأهلكه، ثم منعه الله المال، فلم يعطه شيئاً حتى افتقر وسأل الناس، فأهلكه الله تعالى، ومات فقيراً في المستهزئين، ثم نعت عمله الخبيث، فقال: ﴿ كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾ [آية: ١٦] يعني كان عن آيات القرآن معرضاً مجانباً له لا يؤمن بالقرآن. ثم أخبر الله تعالى ما يصنع به في الآخرة، فقال: ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ [آية: ١٧] يعني سأكلفه أن يصعد على صخرة من النار ملساء في الباب الخامس، واسم ذلك الباب سقر، في تلك الصخرة كوى تخرج منها ريح، وهي ريح حارة، وهي تناثر لحمه يقول الله جل وعز: ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ يقول: سأغشى وجهه تلك الصخرة، وهي جبل من نار طوله مسيرة سبعين سنة، ويصعد به فيها على وجهه، فإذا بلغ الكافر أعلاها انحط إلى أسفلها، ثم يكلف أيضاً صعودها، ويخرج إليه من كوى تلك الصخرة ريح باردة من فوقها ومن تحتها تقطع تلك الريح لحمه، وجلدة وجهه، فكلما أصعد أصابته تلك الريح وإذا انحط، حتى ينتثر اللحم من العظم، ثم يشرب من عين آنية، التي قد انتهى حرها، فهذا دأبه أبداً.