ثم قال: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ ﴾ يعني بالإنسان الأسود بن عبد الأسد ﴿ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً ﴾ إنك ساع إلى ربك سعياً ﴿ فَمُلاَقِيهِ ﴾ [آية: ٦] بعملك، ثم قال: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ [آية: ٧] وهو عبدالله بن عبد الأسد، ويكنى أبا سلمة ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾ [آية: ٨] يقول: باليسير، بأن الله لا يغير حسناته ولا يفضحه. وذلك أن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة، فإنهم يموج بعضهم في بعض، مقدار ثلاث مائة سنة، حتى إذا استوى الرب جل وعز على كرسيه ليحاسب خلقه، فإذا جاء الرب تبارك وتعالى والملائكة صفاً صفاً، فينظرون إلى الجنة، وإلى النار، ويجاء بالنار، من مسيرة خمس مائة عام، عليها تسعون ألف زمام، في كل زمام سعبون ألف ملك، متعلق يحبسونها عن الخلائق، طول عنق أحدهم مسيرة سنة، وعلظها مسيرة سنة، مابين منكبي أحدهم مسيرة خمسين سنة، وجوههم مثل الجمر، وأعينهم مثل البرق، إذا تكلم أحدهم، تناثرت من فيه النار، بيد كل واحد منهم، مرزبة، عليها ثلاث مائة وستون رأساً، كأمثال الجبال، هى أخف بيده من الريشة، فيجئون بها فيسوقونها، حتى تقام عن يسار العرش. ويجاء بالجنة يزفونها كما تزف العروس إلى زوجها، حتى تقام عن يمين العرش، فإذا ما عاين الخلائق النار، وما أعد الله لأهلها، ونظروا إلى ربهم وسكتوا، فانقطعت عند ذلك أصواتهم، فلا يتكلم أحد منهم من فرق الله وعظمته، ولما يرون من العجائب من الملائكة، من حلمة العرش، ومن أهل السماوات، ومن جهنم، ومن خزنتها، فانقطعت أصواتهم عند ذلك. وترتعد مفاصلهم، فإذا علم الله ما أصاب أولياءه من الخوف، وبلغت القلوب الحناجر، فيقوم مناد عن يمين العرش، فينادى:﴿ يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾[الزخرف: ٦٨]، فيرفع عند ذلك الإنس والجن كلهم رءوسهم والمؤمنون والكفار، لأنهم عباده كلهم، ثما ينادي في الثانية:﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾[الزخرف: ٦٩]، فيرفع المؤمنون رءوسهم، وينكس أهل الأديان كلهم رءوسهم، والناس سكوت مقدار أربعين عاماً، فذلك قوله:﴿ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾[المرسلات: ٣٥، ٣٦].
وقوله:﴿ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً ﴾[النبأ: ٣٨]، وقال: لا إله إلا الله، فذلك الصواب، وقوله:﴿ وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ﴾[طه: ١٠٨]، فلا يجبهم الله، ولا يكلمهم، ولا يتكلمون هم مقدار أربعين سنة، يقول بعد ذلك لملك من الملائكة، وهو جبريل، عليه السلام: ناد الرسل وابدأ بالأمي، قال: فيقوم الملك، فينادى عند ذلك أين النبي الأمي؟ فتقول الأنبياء عند ذلك: كلنا نبيون وأميون بين، فيقول النبي العرب الأمي الحرمي، فيقوم عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرفع صوته بالدعاء، فيقول: كم من ذنب قد عملتموه ونسيتموه، وقد أحصاه الله، رب لا تفضح أمتي، قال: فلا يزال يدنو من الله تعالى، حتى يقوم بين يديه، أقرب خلقه إليه، فيحمد الله ويثني عليه، ويذكر من الثناء على الله تعالى والحمد، حتى تعجب الملائكة منه والخلائق. فيقول الله عز وجل: قد رضيت عنك يا محمد، اذهب فناد أمتك، فينادى، وأول ما يدعو يدعو من أمته عبدالله بن عبد الأسد أبا سلمة، فلا يزال يدنو فيقربه الله عز وجل منه فيحاسبه حساباً يسيراً، واليسير الذي لا يأخذه بالذنب الذي عمله، ولا يغضب الله عز وجل عليه، فيجعل سيئاته داخل صحيفته وحسناته ظاهر صحيفته، فيوضع على رأسه التاج من ذهب عليه تسعون ألف ذؤابة، كل ذؤابة درة تساوى مال المشرق والمغرب ويلبس سبعين حلة من الاستبرق والسندس، فالذي يلي جسده حريرة بيضاء. فذلك قوله:﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾[الحج: ٢٣]، ويسور بثلاث أسورة، سوار من فضة، وسوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ، ويوضع إكليل مكلل بالدر والياقوت، وقد تلألأ في وجهه، من نور ذلك، فيرجع إلى إخوانه من المؤمنين، فينظرون إليه وهو جاء من عند الله، فتقول الملائكة والناس والجن، والله لقد أكرم الله هذا، لقد أعطى الله لهذا، فينظرون إلى كتابه فإذا سيئاته باطن صحيفته، وإذا حسناته ظاهر كتابه، فتقول عند ذلك الملائكة ما كان أذنب هذا الآدمي ذنباً قط، والله، لقد اتقى هذا العبد، فحق أن يكرم مثل هذا العبد، وهم لا يشعرون أن سيئاته باطن كتابه، وذلك لمن أراد الله تعالى أن يكرمه ولا يفضحه، قال: فيأتى إخوانه من المسلمين، فلا يعرفونه، فيقول: أتعرفونى؟ فيقولون كلهم: لا، والله، فيقول: إنما برحت الساعة، وقد نسيتوني، فيقول: أنا أبو سلمة، أبشروا بمثله يا معشر الإخوان، لقد حاسبني ربي حساباً يسيراً، وأكرمني، فذلك قوله: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾.
﴿ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ ﴾ يقول: إلى قومه ﴿ مَسْرُوراً ﴾ [آية: ٩] فيعطى كتابه بيمينه:﴿ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾[الحاقة: ١٩، ٢٠] إلى آخر القصة، ثم ينادى مناد بالأسود بن عبد الأسد، أخى عبدالله المؤمن فيريد الشقى أن يدنو، فيتنهرونه، و يشق صدره حتى يخرج قلبه من وراء ظهره من بين كتفيه، ويعطى كتابه، ويجعل كل حسنة عملها في دهره في باطن صحيفته، لأنه لم يؤمن بالإيمان، وتجعل سيئاته ظاهر صحيفته، ويحجب عن الله عز وجل فلا يراه، ولكن ينادى مناد من عند العرش يذكره مساوئه. فكلما ذكر مساوئه، قال: أنا أعرف هذا، لعنه الله، فتجىء اللعنة من عند الله عز وجل، حتتى تقع عليه، فيلطخ باللعنة، فيصير جسده مسيرة شهر في طول مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن، ورأسه مثل الأقرع، وهو جبل عظيم بالشام وأنيابه مثل أحد، وحدقتاه مثل جبل حراء، الذي بمكة، ومنخره مثل الووقين وهما جبلان، وشعره في الكثرة مثل الأجمة، وفى الطول مثل القصب، وفى الغلظ مثل الرماح، ويوضع على رأسه تاج من نار، ويلبس جبة من نحاس ذائب، ويقلد حجراً من كبريت، مثل الجبل تشتعل فيه النار، وتغل يداه إلى عنقه، ويسود وجهه، وهو أشد سواداً من القبر، في ليلة مظلمة، وتزرق عيناه، فيرجع إلى إخوانه، فأول ما يرونه يفزع منه الخلائق حتى يمسكوا على آنافهم من شدة نتنه، فيقولون: لقد أهان الله هذا العبد، لقد أخزى الله هذا العبد، فينظرون إلى كتابه، فإذا سيئاته ظاهرة، وليس له من الحسنات شىء، يقولون: أما كان لهذا العبد في الله عز وجل حاجة، ولا خافه يوماً قط، ولا ساعة، فحق لهذا العبد، إذ أخزاه الله وعذبهن فتلعنه الملائكة أجمعون، فإذا رجع إلى الموقف لم يعرفه أصحابه، فيقول: أما تعرفوني؟ قالوا: لا والله، فيقول: أنا الأسود بن عبد الأسد، فينادي بأعلى صوته، فيقول:﴿ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ﴾[الحاقة: ٢٥- ٢٨].
يقول: يا ليت كان الموت أن أموت فاستريح من هذا البلاء هلك عن حجتي اليوم، ثم يقول: الويل، فيبشر أخوه المؤمنين، ويبشر هذا الكفار، فذلك قوله: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَىٰ سَعِيراً ﴾ [آية: ١٢] يقول: يدعو بالويل، ويدخل النار، يقول: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً ﴾ [آية: ١٣] يقول في قومه كريماً، قال فيذله الله عز وجل يوم القيامة، قال: ﴿ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ﴾ [آية: ١٤] يقول: أن لن يبعث الله تعالى ﴿ بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ ﴾ يقول: الذي خلقه ﴿ بِهِ بَصِيراً ﴾ [آية: ١٥] إنه شهيد لعمله.


الصفحة التالية
Icon