﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ ﴾ [آية: ١] يعني قد أتاك حديث أهل النار من قوله:﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾[المؤمنون: ١٠٤]، وكل شىء في القرآن ﴿ هَلْ أَتَاكَ ﴾، يقول: قد أتاك، ثم أخبر عن حالهم، فقال: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴾ [آية: ٢] يعني ذليلة ﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ [آية: ٣] يعني عاملة في النار، النار تأكله، ويأكل من النار، يعني ناصبة للعذاب صاغرة ﴿ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾ [آية: ٥] يعني من عين قد انتهى حرها، وذلك أن جهنم تسعر عليهم منذ يوم خلقت إلى يوم يدخلونها، وهي عين تخرج من أصل جبل طولها مسيرة سبعين عاماً، ماؤها أسود كدردي الزيت، كدر غليظ كثير الدعاميص، تسقيه الملائكة بإناء من حديد من نار فيشربه، فإذا قرب الإناء من فيه أحرق شدقيه، وتناثرت أنيابه وأضراسه، فإذا بلغ صدره نضج قلبه، فإذا بلغ بطنه غلى كما يغلي الحميم من شدة الحر، حتى يذوب كما يذوب الرصاص إذا أصابه النار، فيدعوا الشقي بالويل، فذلك قوله: ﴿ تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾.
ثم أخبر عن طعام الشقي، فقال: ﴿ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ﴾ [آية: ٦] وهي شجرة تكون بمكة كثيرة الشوك لا تقربها دابة في الأرض من شوكها، ولا يستطيع أحد أن يمسكها من كثرة شوكها، وتسميها قريش، وهي رطبة في الربيع الشبرق، وتصيب الإبل من ورقها في الربيع ما دامت رطبة، فإذا يبست لم تقربها الإبل، وما من دابة في الأرض من الهوام والسباع، وما يؤذى بنى آدم إلا مثلها في النار سلطها الله عز وجل على أهلها، لكنها من نار، وما خلق الله شيئاً في النار إلا من النار، ثم قال: ﴿ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴾ [آية: ٧] فإنهم لا يطعمون من أجل الجوع، وإنما من أجل العذاب. ثم ذكر أولياءه من أهل طاعته، فقال: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴾ [آية: ٨] يعني فرحة شبه الله عز وجل وجوههم بوجوه قوم فرحين، إذا أصابوا الشراب طابت أنفسهم، فاجتمع الدم في وجوههم، فاجتمع فرح القلوب وفرح الشراب، فهو ضاحك الوجه مبتسم طيب النفس، ثم قال: ﴿ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴾ [آية: ٩] يعني قد رضي الله عمله، فأثابه الله عز وجل ذلك بعمله. قال: ﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ [آية: ١٠] وإنما سماها عالية لأن جهنم أسفل منها، وهي دركات، والجنة درجات، ثم قال: ﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾ [آية: ١١] يقول: لا يسمع بعضهم من بعض غيبة، ولا كذب، ولا شتم، قوله: ﴿ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴾ [آية: ١٢] يعني في الجنة لأنها فيها تجرى الأنهار ﴿ سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾ [آية: ١٣] منسوجة بقضبان الدر والذهب عليها سبعون فراشاً، كل فراش قدر غرفة من غرف الدنيا، فذلك قوله: ﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾.
﴿ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴾ [آية: ١٤] يعني مصفوفة وهي أكواب من فضة، وهي من الصفاء مثل القوارير مدورة الرءوس ليس لها عرى ولا خراطيم.
﴿ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴾ [آية: ١٥] يعني الوسائد الكبار العظام مصفوفة على الطنافس، وهي بلغة قريش خاصة، ثم قال: ﴿ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ [آية: ١٦] يعني طنافس مبسوطة بعضها على بعض، يذكرهم الله عز وجل صنعه ليعتبر عباده فيحرصوا عليها، ويرغبوا فيها، ويحذروا النار، فإن عقوبته على قدر سلطانه وكرامته قدر سلطانه. ثم ذكر عجائبه، فقال: ﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ ﴾ لأن العرب لم يكونوا رأوا الفيل، وإنما ذكر لهم ما أبصروا، ولو أنه قال: أفلا ينظرون إلى الفيلة ﴿ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [آية: ١٧] لم يتعجبوا لها لأنهم لم يروها ﴿ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴾ [آية: ١٨] من فوقهم خمس مائة عام ﴿ وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾ [آية: ١٩] على الأرض أوتاداً لئلا تزول بأهلها، ثم قال: ﴿ وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [آية: ٢٠] يعني كيف بسطت من تحت الكعبة مسيرة خمس مائة عام. ثم قال: ﴿ فَذَكِّرْ ﴾ أهل مكة يا محمد ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [آية: ٢١] كالذين من قبلك ﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ﴾ [آية: ٢٢] يقول: لست عليهم بملك، ثم نسختها آية السيف في براءة، ثم قال: ﴿ إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ ﴾ يعني أعرض ﴿ وَكَفَرَ ﴾ [آية: ٢٣] بالإيمان ﴿ فَيْعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ﴾ في الآخرة ﴿ ٱلْعَذَابَ ٱلأَكْبَرَ ﴾ [آية: ٢٤] وإنما سماه الله الأكبر لأن الله كان أوعدهم القتل والجوع في الدنيا، فقال: الأكبر، لأنه أكبر من الجوع والقتل، وهو عذاب جهنم، ثم قال: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾ [آية: ٢٥] يعني مصيرهم ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [آية: ٢٦] يعني جزاءهم على الله هين.


الصفحة التالية
Icon