قوله: ﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ﴾ [آية: ١] يعني مكة ﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ﴾ [آية: ٢] يعني لم أحلها لأحد من قبلك ولا من بعدك، وإنما أحللتها لك ساعة من النهار، وذلك أن الله عز وجل لم يفتح مكة على أحد غيره، ولم يحل بها القتل لأحد، غير ما قتل النبى صلى الله عليه وسلم مقيس بن ضبابة الكنانى وغيره، حين فتح مكة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ [آية: ٣] يعني آدم وذريته عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، فأقسم الله عز وجل بمكة، وبآدم وذريته ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [آية: ٤] منتصباً قائماً، وذلك" أن الله تبارك وتعالى خلق كل شىء على أربع قوائم غير ابن آدم يمشى على رجلين، نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف القرشى، وذلك أنه أصاب ذنباً، وهو بالمدينة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كفارته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب فاعتق رقبة، أو أطعم ستين مسكيناً "، قال: ليس غير هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو الذي أخبرتك "، فرجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مهموم مغموم حتى أتى أصحابه، فقال: والله، ما أعلم إلا أني لئن دخلت في دين محمد إن مالي لفي نقصان من الكفارات والنفقة في سبيل الله، ما يظن محمد إلا أنا وجدنا هذا المال في الطريق لقد أنفقت مالاً لبداً، يعني مالاً كثيراً، فأنزل الله عز وجل ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾.
﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ [آية: ٥] يعني بالأحد الله عز وجل، يعني نفسه، أيحسب هذا الإنسان أن لن يقدر الله عز وجل على أن يذهب بماله، وإن أحرزه ﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾ [آية: ٦] ثم قال الله تعالى وهو بعده الخير: ﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ [آية: ٧] أو يحسب هذا الإنسان أن الله تعالى ليس يرى ما ينفق وليس يحصيه؟ وهو يخلفه عليه، ثم ذكر النعم، فقال: ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ ﴾ [آية: ١٠] يقول: بينا له سبيل الخير والشر، ثم حرضه على الكفارة، فقال: ﴿ فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ ﴾ [آية: ١١] وهو مثل ضربه الله عز وجل له يقول: إن الذنوب بين يديك مثل الجبل، فإذا أعتقت رقبة اقتحم ذلك الذنوب حتى تذوب وتذهب، كمثل رجل بين يديه عقبة فيقتحم فيستوى بين يديه، وذلك من أصاب ذنباً واستغفر ربه، وكفره بصدقة تتقحم ذنوبه حتى تحطمها تحطيماً مثل الجبل إذا خر، فيستوى مع الأرض، فذلك قوله: ﴿ فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ ﴾.
قال: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ ﴾ [آية: ١٢] تعظيماً لها، قال: ﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾ [آية: ١٤] يعني مجاعة ﴿ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ [آية: ١٥] يعني ذا قرابة ﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [آية: ١٦] يعني فقيراً قد التصق ظهره بالتراب من العرى، وشدة الحاجة، فيستحي أن يخرج، فيسأل الناس، وذلك كله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة، أو أطعم ستين مسكيناً، يقول الله عز وجل أعجز أن يفعل من هذين الأمرين واحداً، وكان يظن أن الله تعالى لم يكن يراه إذا أنفق فيخلف عليه تلك النفقة، فذلك قوله: ﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ [البلد: ٧]، يعني الله عز وجل.﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بالله تعالى وملائكته، وكتبه ورسله وجنته وناره ﴿ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ ﴾ يعني على فرائض الله تعالى ما افترض عليهم في القرآن، فإنهم إن لم يؤمنوا بالله، ولم يعملوا الصالحات، ولم يصبروا على الفرائض، لم أقبل منهم كفاراتهم وصدقاتهم، ثم ذكر الرحم، فقال: ﴿ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ ﴾ [آية: ١٧] يعني بالمرحمة، يعني بالرحم، فلا يقطعونها، ثم قال: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ يعني الذين آمنوا وعلموا الصالحات، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة هم ﴿ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ ﴾ [آية: ١٨] الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم يوم القيامة، قال: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ يعني القرآن ﴿ هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ ﴾ [آية: ١٩] يعني الذين يعطون كتبهم بشمائلهم بلغة بني غطيف حي من مراد، وكل ذلك يخوف الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف ﴿ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ﴾ [آية: ٢٠] يعني مطبقة وهي جهنم.