وقوله سبحانه: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾، يعنى صدقنا بألسنتهم.
﴿ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ فى السر، نزلت فى أبى لبابة، اسمه: مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بنى عمرو بن عوزف، وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه أن محمداً جاء يحكم فيكم بالموت، فلا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكان حليفاً لهم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ ﴾، أى ولا يحزنك الذين هادوا، يعنى يهود المدينة.
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾، يعنى قوالون للكذب، منهم: كعب ابن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبو لبابة، وسعيد بن مالك، وابن صوريا، وكنانة بن أبى الحقيق، وشاس بن قيس، وأبو رافع بن حريملة، ويوسف بن عازر بن أبى عازب، وسلول بن أبى سلول، والبخام بن عمرو، وهم ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾، يعنى يهود خيبر.
﴿ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ يا محمد ﴿ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ ﴾، يعنى أمر الرجم.
﴿ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ عن بيانه فى التوراة. وذلك أن رجلاً من اليهود يسمى يهوذا، وامرأة تسمى بسرة من أهل خيبر من أشراف اليهود، زنيا وكانا قد أحصنا، فكرهت اليهود رجمهما من أجل شرفهما وموضعهما، فقالت يهود خيبر، نبعث بهذين إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فى دينه الضرب، وليس فى دينه الرجم، ونوليه الحكم فيهما، فإن أمركم فيهما بالضرب فخذوه، وإن أمركم فيهما بالرجم فاحذروه، فكتب يهود خيبر إلى يهود المدينة، إلى كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وأبى لبابة، وبعثوا نفراً منهم، فقالوا: سلوا لنا محمداً، عليه السلام، عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما؟ فإن أمركم بالجلد فخذوا به، والجلد الضرب بحبل من ليف مطلى بالقار، وتسود وجوههما ويحملان على حمار، وتجعل وجوههما مما يلى ذنب الحمار، فذلك التجبية.﴿ يَقُولُونَ ﴾، أى اليهود.
﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ ﴾، أى إن أمركم بالرجم فاحذروه على ما فى أيديكم أن يسلبكموه، قال:" فجاء كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأبو لبابة، إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأخبره بالرجم، ثم قال جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، وسلهم عنه، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم فى بيت المدارس، فقال: " يا معشر اليهود، أخرجوا إلىَّ علماءكم "، فأخرجوا إليه عبدالله بن صوريا، وأبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، ثم حصر أمرهم، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقى بالتوراة، فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ابن صوريا غلاماً شاباً، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن سلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنشدك بالله الذى لا إله إلا هو إله بنى إسرائيل، الذى أخركم من مصر، وفلق لكم البحر، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، وأنزل عليكم كتابه يبين لكم حلاله وحرامه، وظلل عليكم المن والسلوى، هل وجدتم فى كتابكم أن الرجم على من أحصن؟ "، قال ابن صوريا: اللهم نعم، ولولا أنى خفت أن أحترق بالنار، أو أهلك بالعذاب، لكتمتك حين سألتنى، ولم أعترف لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، فأنا أول من أحيا سُنة من سنن الله عز وجل "، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده فى بنى غنم بن مالك بن النجار. فقال عبدالله بن صوريا: والله يا محمد، إن اليهود لتعلم أنك نبى حق، ولكنهم يحسدونك، ثم كفر ابن صوريا بعد ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى ما فى التوراة من أمر الرجم، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾، فلا يخبر به، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لليهود: " إن شئتم أخبرتكم بالكثير "، قال ابن صوريا: أنشدك بالله أن تخبرنا بالكثير مما أمرت أن تعفو عنه. ثم قال ابن صوريا للنبى صلى الله عليه وسلم: أخبرنى عن ثلاث خصال لا يعلمهن إلا نبى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هات، سل عما شئت "، قال: أخبرنى عن نومك؟ قال: " تنام عينى وقلبى يقظان "، قال ابن صوريا: صدقت، قال: فأخبرنى عن شبه الولد، من أين يشبه الأب أو الأم؟ قال: " أيهما سبقت الشهوة له كان الشبه له "، قال: صدقت، قال: أخبرنى ما للرجل وما للمرأة من الولد، ومن أيهما يكون؟ قال النبى صلى الله عليه وسلم: " اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة، والعظم والعصب والعروق للرجل "، قال: صدقت، قال: فمن وزيرك من الملائكة، ومن يجيئك بالوحى؟ قال: " جبريل عليه السلام "، قال: صدقت يا محمد، وأسلم عند ذلك. "قوله سبحانه: ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ ﴾، يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة، كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأبى لبابة: إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه، وإن لم تؤتوه، يعنى الجلد، وإن أمركم بالرجم فاحذروا، فإنه نبى، قال الله عز وجل: ﴿ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ من الكفر حين كتموا أمر الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾، يعنى به اليهود، وهم أهل قريظة، أما الخزى الذى نزل بهم، فهو القتل والسبى، وأما خزى أهل النضير، فهو الخروج من ديارهم وأموالهم وجناتهم، فأجلوا إلى الشام، إلى أذرعات وأريحا.
﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٤١]، يعنى ما عظم من النار. ثم قال: ﴿ سَمَّاعُونَ ﴾، يعنى قوالون.
﴿ لِلْكَذِبِ ﴾ للزور، منهم: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا.
﴿ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾، يعنى الرشوة فى الحكم، كانت اليهود قد جعلت لهم جعلاً فى كل سنة، على أن يقضوا لهم بالجور، يقول الله عز وجل: ﴿ فَإِن جَآءُوكَ ﴾ يا محمد فى الرجم.
﴿ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ ﴾، يعنى بالعدل.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾ [آية: ٤٢]، يعنى الذين يعدلون فى الحكم، ثم نسختها الآية التى جاءت بعد، وهى قوله: ﴿ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ إليك فى الكتاب أن الرجم على المحصن والمحصنة، ولا ترد الحكم.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾، يعنى كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف. قال تعالى: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى الرجم على المحصن والمحصنة، والقصاص فى الدماء سواء.
﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾، يعنى يعرضون من بعد البيان فى التوراة.
﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٤٣]، يعنى وما أولئك بمصدقين حين فرحوا ما فى التوراة.