﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر النبوة وكتمها سنتين، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾، يقول: امض لما تؤمر من تبليغ الرسالة، فلما بلغ عن ربه عز وجل استقبله كفار مكة بالأذى والتكذيب في وجهه، فقال تعالى: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ٩٤]، يعني عن أذى المشركين إياك، فأمره الله عز وجل بالإعراض والصبر على الأذى، ثم نسختها آية السيف. ثم قال سبحانه: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [آية: ٩٥]، وذلك أن الوليد بن المغيرة المخزومى حين حضر الموسم، قال: يا معشر قريش، إن محمداً قد علا أمره في البلاء، وما أرى الناس براجعين حتى يلقونه، وهو رجل حلو الكلام، إذا كلم الرجل ذهب بعقله، وإني لا آمن أن يصدقه بعضهم، فابعثوا رهطاً من ذوى الحجى والرأي، فليجلسوا على طريق مكة مسيرة ليلة أو ليلتين، فمن سأل عن محمد، فليقل بعضهم: إنه ساحر يفرق بين الاثنين، ويقول بعضهم: إنه كاهن يخبر بما يكون في غد لئلا تروه خير من أن تروه، فبعثوا في كل طريق بأربعة من قريش، وأقام الوليد بن المغيرة بمكة، فمن دخل مكة في غير طريق سالك يريد النبي صلى الله عليه وسلم تلقاهم الوليد، فيقول: هو ساحر كذا، ومن دخل من طريق لقيه الستة عشر، فقالوا: هو شاعر، وكذاب، ومجنون. ففعلوا ذلك، وانصدع الناس عن قولهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرجو أن يلقاه الناس، فعرض عليهم أمره، فمنعه هؤلاء المستهزءون من قريش، ففرحت قريش حين تفرق الناس عن قولهم، وقالوا: ما عند صاحبكم إلا غروراً، يعنون النبي صل الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا دأبنا ودأبك، فذلك قوله سبحانه:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾[النحل: ٢٤].
وكان منهم من يقول: بئس وافد القوم أنا إن انصرفت قبل أن ألقى صاحبي، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين، فيقول: ما هذا الأمر؟ فيقولون: خيراً أنزل الله عز وجل كتاباً، وبعث رسولا، فذلك قوله سبحانه:﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾[النحل: ٣٠]، فنزل جبريل، عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، فمر به الوليد بن المغيرة بن عبد الله، فقال جبريل، عليه السلام، للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، فأهوى جبريل بيده إلى فوق كعبه، فقال: قد كفيتك. فمر الوليد في حائط فيه نبل لبني المصطلق، وهى حي من خزاعة يتبختر فيهما، فتعلق السهم بردائه قبل أن يبلغ منزله، فنفض السهم وهو يمشي برجله، فأصاب السهم أكحله فقطعه، فلما بات تلك الليلة انتفضت به جراحته، ومر به العاص بن وائل، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال:" بئس عبد الله هذا "، فأهوى جبريل بيده إلى باطن قدمه، فقال: قد كفيتك، وركب العاص حماراً من مكة يريد الطائف، فاضجع الحمار به على شبرقة ذات شوك، فدخلت شوكة في بطن قدمه فانتفخت، فقتله الله عز وجل تلك الليلة. ومر به الحارث بن قيس بن عمرو بن ربيعة بن سهم، فقال جبريل عليه السلام: كيف تجد هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، فأهوى جبريل، عليه السلام، إلى رأسه، فانتفخ رأسه، فمات منها، ومر به الأسود بن عبد العزى بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، فقال جبريل، عليه السلام: كيف تجد هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، إلا أنه ابن خالى "، فأهوى جبريل، عليه السلام، بيده إلى بطنه، فقال: قد كفيتك، فعطش، فلم يرو من الشراب حتى مات. ومر الأسود بن عبد المطلب بن المنذر بن عبد العزى بن قصي، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" بئس عبد الله هذا "، قال: قد كفيتك أمره، ثم ضرب ضربة بحبل من تراب، رمى في وجهه فعمي، فمات منها، وأما بعكك وأحرم، فهما أخوان ابنا الحجاج بن السياق بن عبد الدار بن قصي، فأما أحدهما فأخذته الدبيلة، وأما الآخر، فذات الجنب، فماتا كلاهما، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾، يعني هؤلاء السبعة من قريش. ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٦]، هذا وعيد لهم بعد القتل.﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [آية: ٩٧]، حين قالوا: إنك ساحر، ومجنون، وكاهن، وحين قالوا: هذا دأبنا ودأبك.