﴿ يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ وذلك أن عبد الله بن أبى، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وطعمة بن أبيرق، وهم المنافقون كتبوا مع غلام لطعمة إلى مشركى مكة من قريش إلى أبى سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبى جهل، وأبى الأعور رأس الأحزاب أن أقدموا علينا فسنكون لكم اعواناً فيما تريدون، وإن شئتم مكرنا بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يتبع دينكم الذى أنتم عليه، فكتبوا إليهم: إنا لن نأتيكم حتى تأخذوا العهد والميثاق من محمد، فإنا نخشى أن يغدر بنا، ثم نأتيكم فنقول وتقولون، لعله يتبع ديننا، فلما جاءهم الكتاب، انطلق هؤلاء المنافقون حتى أتوا النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتيناك فى أمر أبى سفيان بن حرب، وأبى الأعور، وعكرمة بن أبى جهل، أن تعطيهم العهد والميثاق على دمائهم وأموالهم، فيأتون وتكلمهم لعل إلهك يهد قلوبهم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ وكان حريصاً على أن يؤمنوا أعطاهم الأمان من نفسه، فكتب المنافقون إلى الكافرين من قريش أنا قد استمكنا من محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أعطانا وإياكم الذى تريدون، فأقبلوا على اسم اللات والعزى لعلنا نزيله إلى ما نهواه، ففرحوا بذلك. ثم ركب كل رجل منهم راحلة حتى أتوا المدينة، فلما دخلوا على عبد الله بن أبى، أنزلهم وأكرمهم ورحب بهم، وقال: أنا عند الذى يسركم محمد أذن، ولو قد سمع كلامنا وكلامكم لعله لا يعصينا فيما نأمره، فأبشروا واستعينوا آلهتكم عليه، فإنها نعم العون لنا ولكم، فلما رأوا ذلك منه قالوا: أرسل إلى إخواننا، فأرسل عبدالله بن أبى إلى طعمة وسعد أن إخواننا من أهل مكة قدموا علينا، فلما أتاهم الرسول جاءوا فرحبوا بهم ولزم بعضهم بعضاً من الفرح وهم قيام، ثم جلسوا يرون أن يستنزلوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن دينه. فقال عبدالله بن أبى: أما أنا فأقول له ما تسمعون لا أعدوا ذلك ولا أزيد، أقول: إنا معشر الأنصار لم نزل وإلهنا محمود بخير، ونحن اليوم أفضل منذ أرسل إلينا محمد، ونحن كل يوم منه في مزيد، ونحن نرجو بعد اليوم من إله محمد كل خير، ولكن لو شاء محمد قبل أمراً كان يكون ما عاش لنا وله ذكر فى الأولين الذين مضوا، ويذهب ذكره فى الآخرين على أن يقول: إن اللات والعزى لهما شفاعة يوم القيامة، ولهما ذكر ومنفعة على طاعتهما، هذا قولى له." قال أبو سفيان: نخشى علينا وعليكم الغدر والقتل، فإن محمداً زعموا أنه لن يبقى بها أحداً منا فى شدة بغضه إيانا، وإنا نخشى أن يكون يضمر لنا فى نفسه ما كان لقى أصحابه يوم أحد. قال عبدالله بن أبى: إنه إذا أعطى الأمان فإنه لن يغدر، هو أكرم من ذلك، وأوفى بالعهد منا، فلما أصبحوا أتوه فسلمو عليه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " مرحباً بأبى سفيان اللهم اهد قلبه "، فقال أبو سفيان: اللهم يسر الذى هو خير، فجلسوا فتكلموا وعبدالله بن أبى، فقالوا: للنبى صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر اللات والعزة ومناة، حجر يعبد بأرض هذيل، وقل: إن لهما شفاعة ومنفعة فى الآخرة لمن عبدهما، فنظر إليه النبى صلى الله عليه وسلم وشق عليه قولهم فقال عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه: ائذن لى يا رسول الله فى قتلهم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " إنى قد أعطيتهم العهد والميثاق "، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: " لو شعرت أنكم تأتون لهذا من الحديث لما أعطيتهم الأمان ". فقال أبو سفيان: ما بأس بهذا أن قوماً استأنسوا إليك يا محمد ورجوا منك أمراً، فأما إذا قطعت رجاءهم، فإنه لا ينبغى لك أن تؤذيهم، وعليك باللين والتؤدة لإخوانك وأصحابك، فإن هذا من قوم أكرموك ونصروك وأعانوك ولولاهم لكنت مطلوباً مقتولاً، وكنت فى الأرض خائفاً لا يقبلك أحد، فزجرهم عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فقال: اخرجوا فى لعنة الله وغضبه فعليكم رجس الله وغضبه وعذابه ما أكثر شركم، وأقل خيركم وأبعدم من الخير، وأقربكم من الشر، فخرجوا من عنده، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يخرجهم من المدينة، فقال بعضهم لبعض: لا نخرج حتى يعطينا العهد إلى أن نرجع إلى بلادنا، فأعطاهم النبى صلى الله عليه وسلم ذلك "، فنزلت فيهم ﴿ يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ يعنى تبارك وتعالى أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور، اسمه عمرو بن سفيان، ثم قال: ﴿ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ يعنى عبدالله بن أبى، وعبدالله بن سعد بن أبى سرح، وطعمة بن أبيرق.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [آية: ١].
فلما خرجوا من عنده قال النبى صلى الله عليه سلم: ما لهؤلاء؟ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴿ وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ ﴾ يعنى ما فى القرآن ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [آية: ٢].
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ وثق بالله فيما تسمع من الأذى ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [آية: ٣] ناصراً وولياً ومانعاً، فلا أحد أمنع من الله تعالى، وإنما نزلت فيها ﴿ يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ من أهل مكة ﴿ وَٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ من أهل المدينة، يعنى هؤلاء النفر الستة المسمين، ودع أذاهم إياك لقولهم للنبى صلى الله عليه وسلم: قل للآلهة شفاعة ومنفعة لمن عبدها ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً ﴾ يعنى مانعاً فلا أحد أمنع من الله عز وجل، ثم قال:﴿ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ نزلت فى أبى معمر بن أنس الفهرى، كان رجلاً حافظاً لما سمع وأهدى الناس بالطريق وكان لبيباً، فقالت قريش: ما أحفظ أبا معمر، إلا أنه ذو قلبين، فكان جميل يقول: إن فى جوفى قلبين أحدهما أعقل من محمد، فلما كان يوم بدر انهزم وأخذ نعله فى يده، فقال له سليمان بن الحارث: أين تذهب يا جميل؟ تزعم أن لك قلبين أحدهما أعقل من محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ يعنى أوس بن الصامت بن قيس الأنصارى من بنى عوف بن الخزرج وامرأته خولة بنت قيس بن ثعلبة بن مالك بن أصرم بن حرامة من بنى عمرو بن عوف بن الخزرج. ثم قال: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ يعنى النبى صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة اتخذه ولداً، فقال الناس: زيد بن محمد، فضرب الله تعالى لذلك مثلاً، فقال: ﴿ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ ﴾ فكما لا يكون للرجل الواحد قلبان، كذلك لا يكون دعى الرجل ابنه يعنى النبى صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة بن قرة بن شرحبيل الكلبى، من بنى عبد ود، كان النبى صلى الله عليه وسلم تبناه فى الجاهلية وآخى بينه وبين حمزة بن عبدالمطلب، رضى الله عنهما، فى الإسلام، فجعل الفقير أخا الغنى ليعود عليه، فلما تزوج النبى صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهانا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فلذلك قوله سبحانه: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ ﴾ يعنى دعى النبى صلى الله عليه وسلم حين ادعى زيداً ولداً، فقال: هو ابنى ﴿ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ يقول: لم يجعل أدعياءكم أبناءكم. ثم قال: ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ الذى قلتم زيد بن محمد هو ﴿ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ يقول: إنكم قلتموه بألسنتكم ﴿ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ ﴾ فيما قال من أمر زيد بن حارثة ﴿ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ ﴾ [آية: ٤] يعنى وهو يدل إلى طريق الحق، ثم أخبر كيف يقولون فى أمر زيد بن حارثة. فقال: ﴿ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ ﴾ يقول: قولوا زيد بن حارثة ولا تنسبوه إلى غير أبيه ﴿ هُوَ أَقْسَطُ ﴾ يعنى أعدل ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ فلما نزلت هذه الآية دعاه المسلمون إلى أبيه، فقال: زيد أنا بن حارثة معروف نسبى، فقال الله تعالى: ﴿ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ يقول: فإن لم تعلموا لزيد أبا تنسبوه إليه، فهو أخوكم فى الدين ومولاكم، يقول فلان مولى فلان ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾ يعنى حرج ﴿ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ قبل النهى ونسبوه إلى غير أبيه ﴿ وَلَـٰكِن ﴾ الجناح فى ﴿ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ بعد النهى ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ { آية: ٥] غفوراً لما كان من قولهم من قبل أن زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً فيما بقى، فقال رجل من المسلمين في ذلك.