قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾؛ إذ يُلهِمُ ربُّكَ الملائكةَ النازِلين من السَّماء ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾ بالنصرِ للمسلمين.
﴿ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ بالتَّنبيهِ والإِخْطَارِ بالبَالِ، ويقالُ: بَشِّرُوهم بالنصرِ، وَقِيْلَ: أرُوهم أنفُسَكُم مَدَداً لَهم فإذا عايَنُوكم ثَبَتُوا. والوحيُ: إلقاءُ المعنى الى النَّفسِ من وجهٍ خَفِيٍّ. وعنِ ابن عبَّاس أنه قالَ: (سَوَّى أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صُفُوفَهُمْ، وَقَدَّمُواْ رَايَاتِهِمْ فَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بعِيرٍ لَهُ يَدْعُو اللهَ وَيَسْتَغِيثُ، فَهبَطَ جِبْرِيْلُ عليه السلام فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ ومِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْمَلَكُ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَيَقُولُ لَهُ: دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ فَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: وَاللهِ لإِنْ حَمَلُواْ عَلَيْنَا لاَ نَثْبتُ لَهُمْ أبَداً. وَألْقَى اللهُ فِي قُلُوب الْكَفَرَةِ الرُّعْبَ بَعْدَ قِيَامِهِمْ لِلصَّفِّ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ: يَا مُحَمَّدُ أخْرِجْ إِلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ نُقَاتِلُهُمْ. فَقَامَ إِلَيْهِمْ بَنُو عَفْرَاءَ مِنَ الأنْصَارِ: عُوذ وَمِعْوَذ وَمَعَاذاً أُمُّهُمْ عَفْرَاءُ وَأبُوهُمُ الْحَارِثُ، فَمَشَواْ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُواْ وَأرْسِلُوا إلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَخَرَجَ إلَيْهمْ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَشَيْتُ إلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَمَشَى إلَيَّ، فَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ أطَرْتُ يَدَهُ، ثُمَّ بَرَكْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ، فَقَامَ شَيْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ إلَى عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَينِ، ثُمَّ ضَرَبَ عُبَيْدَةُ ضَرْبَةً أخْرَى فَقَطَعَ سَاقَ شَيْبَةَ، ثُمَّ قَامَ حَمْزَةُ إلَى عُبَيْدَةَ بن ربيعة فَقَالَ: أنا أسدُ اللهِ وَأسَدُ رَسُولِهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ. فَقَامَ أبُو جَهْلٍ فِي أصْحَابِهِ يُحَرِّضُهُمْ وَيَقُولُ: لاَ يَهُولَنَّكُمْ مَا لَقِيَ هَؤُلاَءٍ، فإِنَّهُمْ عَجِلُواْ وَاسْتَحْمَقُوا، ثُمَّ حَمَلَ هُوَ بنَفْسِهِ، ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى قُرَيْشٍ فَهَزَمُوهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ ﴾؛ أي سأقذفُ في قلوبهم المخافَة منكم. علَّمَ اللهُ المسلمين كيف يضرِبُونَهم، فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ ﴾؛ معناهُ على الأعنَاقِ، وقال عطيَّة والضحاكُ: (مَعْنَاهُ فَاضْرِبُواْ الأَعْنَاقَ)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ ﴾[محمد: ٤]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لأُعَذِّبَ بعَذاب اللهِ تعَالَى، إنَّمَا بُعِثْتُ بضَرْب الرِّقََاب وَشَدِّ الْوَثَاقِ ". وقال بعضُهم ﴿ فَوْقَ ﴾ بمعنى (عَلَى)، أي فَاضرِبُوا على الأعناقِ، وقال عكرمةُ: (مَعْنَاهُ فَاضْربُوا الرُّؤُوسَ). وقال ابنِ عبَّاس: (فَاضْرِبُواْ الأعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا) يعني الرُّؤُوسَ والأعناقَ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ ﴾[النساء: ١١] أي اثنَتين فما فوقَهما، وإنما أمرَ الله تعالى بضرب الرِّقاب والأعنَاقِ؛ لأنَّ أعلى جلدةِ العُنقِ هو الْمَقْتَلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾؛ قال عطيَّة: (يَعْنِي كُلَّ مِفْصَلٍ)، وقال ابنُ عَبَّاس والضحاكُ: (يَعْنِي الأَطْرَافَ). وقال بعضُهم معنى قولهِ تعالى: ﴿ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ ﴾ الصَّنَادِيدُ، وقولهِ تعالى: ﴿ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ يعني السَّفَلَةَ. إلا أنَّ الأوَّل أصحُّ. وَقِيْلَ: معناه: واضرِبُوا منهم كلَّ عُضوٍ أمكَنَكم، وليس عليكم تَوَقِّي عضوٍ دون عضو. وعن أبي سعيد الفاراني أنه كان يقولُ: (أرَادَ اللهُ أنْ لاَ تَتَلَطَّخَ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ بفَرَثِ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَهُمْ أنْ يَضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَيَضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ). والبَنَانُ في اللغة: هو الأصابعُ وغيرُها من الأعضاءِ التي بها يكون قِوَامُ الإنسانِ صوناً لمكانه وحياته، مأخوذٌ من قولهم: أبْنَنَ الرجلُ بالمقامِ إذا أقامَ بهِ.