قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ أي لَولاَ حُكمٌ من اللهِ سبقَ في إباحةِ الغنائمِ لَمسَّكُم فيما استبَحتُم قبلَ الإثخانِ عذابٌ عظيم. وَقِيْلَ: لولا كتابٌ مِن الله سبقَ في أهلِ بدر أن يغفرَ اللهُ لَهم ما تقدَّم من ذُنوبهم وما تأخَّرَ. وَقِيْلَ: معناهُ: لولا حكمُ اللهِ في اللَّوحِ المحفوظِ وفي القرآنِ أنه لا يعذِّبُ قوماً حتى يُبيِّن لهم ما يتَّقون لأصابَتْكم عقوبةٌ عظيمة. وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ في هذه الآيةِ: (وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا قَـتَلَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعِينَ وَأسَرُواْ سَبْعِينَ، اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أصْحَابَهُ فِي أمْرِ الأُسَارَى، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ قَوْمُكَ، فَإنْ تَقْتُلْهُمْ يَدْخُلُوا النَّارَ، وَلَكِنْ فَادِهِمْ فَيَكُونَ الَّذِي تَأْخُذُ مِنْهُمْ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ اللهَ يَُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أعْلَمُ قَوْماً كَانُوا أشَرَّ لِنَبيِّهِمْ مِنْهُمْ فَاقْتُلْهُمْ. فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وسلم برَأي أبي بَكْرٍ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا مَثَلاً فَقالَ:" " مَثَلُ أبي بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام حَيْثُ قَالَ: ﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، وَمَثَلُ عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ عليه السلام حَيْثُ قَالَ: ﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ " ثمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفِدَاءَ عَلَى الأُسَارَى ". فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ... ﴾[الأنفال: ٦٧] إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ،" قَالَ عُمَرُ: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكُمَا؟! حَتَّى الأَرْضُ إن وَجَدَتْ بُكَاءً لِبُكَائِكُمَا بَكَتْ مَعَكُمَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا أبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أصْحَابُكَ مِنْ أخْذِ الْفِدَاءِ "، ثُمَّ قَرَأَ عليه السلام ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ ﴾ ". وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ:" لَمَّا جِيءَ بالأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاَءِ؟ " فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْمُكَ وَأهْلُكَ اسْتَبقْهُمْ لَعَلَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَذبُوكَ وَأخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أعْنَاقَهُمْ، وَمَكِّنْ عَلِيّاً مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبْ عُنُقَهُ، وَمَكِّنِّي مِنْ فُلاَنٍ - بسَبَبٍ لَهُ - فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فإنَّ هَؤُلاَءِ أَئِمَةُ الْكُفْرِ. فَسَكَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أُنَاسٌ: نَأْخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ، وَقَالُ نَاسٌ: نَأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رجَالٍ حَتَّى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإنَّ اللهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رجَالٍ حتَّى تَكُونَ أشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإنَّ مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ مُوسَى قَالَ: ﴿ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ ﴾، ثُمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم لِلأُسَارَى: " أنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةً فَلاَ يَنْقَلِبَنَّ أحَدٌ إلاَّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْب عُنُقٍ " ثمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ ﴾ أي لولاَ حُكمُ اللهِ في أنه يُحلُّ لهم الفديَةَ التي أخذوها من الأُسارى. وَقِيْلَ: معناه: لولا ما سبقَ لهذه الأُمَّة من الرحمةِ إذا عَمِلُوا الخطايَا ثم عَرَفُوا بما عَمِلوا وتَابُوا ورجَعُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا ﴾[الأنفال: ٦٧] مخاطبةٌ لهم لاَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجِلَّت أصحابهُ، فإنَّ أبا بكرٍ كان مرادهُ إعزازَ الدِّين وهدايةَ الأنصارِ، ولأنَّ الله قال: ﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ ﴾ ولم يقُل فيما عزَمتُم وأسررتُم.


الصفحة التالية
Icon