قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾؛ معناهُ: إنما المشركونَ قَذَرٌ، وَقِِيْلَ: خَبَثٌ. والنَّجَسُ: مصدرٌ أُقِيمَ مقامَ الاسمِ لا يُثَنَّى ولا يُجمَعُ، يقالُ: رجلٌ نَجَسٌ وامرأَةٌ نَجَسٌ، ورجال ونساءٌ نَجَس، ولا يؤنَّثُ ولا يُجمع؛ فلهذا لم يقل إن المشركينَ أنجاسٌ، وسَمَّى المشرِكَ نَجَساً؛ لأنَّ شِرْكَهُ يجرِي مجرَى القذر في أنه يُجْنَبُ الْجُنُبُ، كما تُتَجَنَّبُ النجاسات؛ أي يجبُ التبرُّؤ من المشركين وقطعُ مودَّتِهم. والنجاسةُ على ضَربين، نجاسةُ أعيانٍ، ونجاسةُ الذُّنوب، وكان الحسنُ يقول: (لاَ تُصَافِحِ الْمُشْرِكِينَ، فَمَن صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ)، وقال قتادةُ: (سَمَّاهُمُ اللهُ نَجَساً لأنَّهُمْ يُجْنِبُونَ وَلاَ يَغْتَسِلُونَ، وَيُحْدِثُونَ وَلاَ يَتَوَضَّؤوُنَ، فمُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ؛ لأَنَّ الْجُنُبَ لاَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ﴾ أي لا ينبَغِي لهم أن يقربوهُ للحجِّ والطَّواف بعد هذا العامِ، وهو العامُ الذي حجَّ فيه أبو بَكرٍ رضي الله عنه، ونادَى عليٌّ رضي الله عنه فيه ببرَاءَةٍ، وهو سنةُ تسعٍ من الهجرة، ثم حجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في العام الثاني حجَّة الوداعِ في سنة عاشرِ من الهجرة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ ﴾ بيانُ أنَّ المرادَ بالآيةِ إبعادُ المشركين عن المسجدِ الحرام، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه كان يُنادي فيهم في ذلك العامِ: [ألاَّ لاَ يَطُوفَنَّ بهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ هذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَعُرْيَانٌ].
قال ابنُ عبَّاس: (فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ تُجَّارِ بَكْرٍ بْنِ وَائِلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكينَ بَعْدَ قِرَاءَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه هَذِهِ الآيَةَ: سَتَعْلَمُونَ يَا أهْلَ مَكَّةَ إذَا فَعَلْتُمْ هَذَا مَاذَا تَلْقَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ وَمِنْ أيْنَ تَأكُلُونَ، أمَا وَاللهِ لَتُقَطَّعَنَّ سُبُلُكُمْ، وَلاَ نَحْمِلُ إلَيْكُمْ شَيْئاً. فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ أهْلِ مَكَّةَ وَشُقَّ عَلَيْهِمْ، وَألْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوب الْمُسْلِمِينَ حُزْناً وَقَالَ لَهُمْ: مِنْ أيْنَ تَعِيشُونَ وَقَدْ نَفَى الْمُشْرِكِينَ وَقَطَعَ عَنْكُمُ الْمِيرَةَ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ، فَالآنَ يَنْقَطِعُ عَنَّا الأسْوَاقُ وَالتِّجَارَةُ ويَذْهَبُ الَّذِي كُنَّا نُصِيبُهُمْ فِيْهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ) معناهُ: وإنْ خِفْتُم فَقراً من إبعادِ المشركين.
﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ بغيرِهم، فأخْصَبَتْ تَبَالَةُ وَجَرَشُ وحَملوا إلى مكَّة الطَّعامَ والإدامَ، وأغنَى اللهُ أهلَ مكَّة من تُجَّارِ بني بكرٍ. ورُوي أن أهلَ نَجْدٍ وصنعاءَ من أهلِ اليمَنِ أسلَمُوا وحملوا إلى مكَّة الطعامَ في البحرِ والبرِّ. والعَيلَةُ: الفقرِ والصِّفَاقِ، يقالُ: عَالَى الرجلُ يَعِيلُ عليه، قال الشاعرُ: وَلاَ يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاؤُهُ   وَلاَ يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُأي يفتقرُ. وفي مُصحف عبدِالله (وَإنْ خِفْتُمْ عَائِلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). وقولهُ تعالى: ﴿ إِن شَآءَ ﴾؛ استثناءٌ، فجاء عِلمُ اللهِ أنه سيكون لئَلا تترُكَ العبادُ الاستثناءَ في أمورِهم، ولتنقطعَ الآمالُ إلى اللهِ في طلب الغِنَى منه. قَولُهَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي عليمٌ بخلقهِ وما يُصلِحُهم، حكيمٌ فيما حكمَ من أمرهِ.


الصفحة التالية
Icon