قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي قالَ يعقوبُ: إنَّما أشْكُو غَمِّي وحُزْنِي إلى اللهِ. والْبَثُّ: هو تفريقُ الحزنِ الذي لا يكادُ يصبرُ عنه صاحبهُ حتى يَبُثَّهُ. ورُوي أنَّ رجُلاً قالَ ليعقوب عليه السلام: مَا الذي أذهبَ بصَرَكَ؟ قال: حُزْنِي على يوسُفَ، قال: فما الذي قَوَّسَ ظَهرَك؟ قال: حُزنِي على أخيهِ. فأوحَى اللهُ إليه: يا يعقوبُ أتَشْكُونِي؟ وعِزَّتِي لا أكشفُ ما بكَ حتى تَدعُوَنِي، فقال عند ذلك: ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾ فأوحَى اللهُ إليه: وعِزَّتِي وجَلالِي لو كانَا مَيِّتَينِ لأحيَيتُهما لكَ حتى تنظُرَ إلَيهما. وَقِيْلَ: إنَّ رجُلاً دخلَ عليه فقالَ له: يا يعقوبُ ما لِي أراكَ قد انْهَشَمْتَ وَفَنَيْتَ؟ قال: هَشَّمَنِي وَأفْنَانِي ما ابتلانِي اللهُ به من هَمِّ يوسُفَ، فأوحَى اللهُ إليه: أتَشْكُونِي إلى خَلقِي؟ فقالَ: يا رب خطيئةٌ أخطَأْتُها فَاغفِرْها لِي، فقال: قد غفَرتُها لَكَ، فكان بعدَ ذلك إذا سُئلَ قال: ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾.
قال وهبُ بن مَنبه: (أوحَى اللهُ إلى يعقوبَ: أتدري لِمَ عاقبتُكَ وحبستُ عنك يوسف ثمانين سنةَ؟ فقالَ: لاَ، قال: لأنَّكَ شويتَ وقتَّرْتَ على جارِكَ وأكلتَ ولم تُطعِمْهُ!). ويقالُ: إن سببَ ابتلاءِ يعقوب، أنه كان له بقرةٌ وكان لها عِجْلٌ، فذبحَ عِجلَها بين يديها وهي تخورُ، فلم يَرحَمْها يعقوبُ فأخذهُ الله به وابتلاهُ بفقدِ أعزِّ أولادهِ من وسيطٍ الواحد!قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي أعلمُ أن رُؤيا يوسف صادقةٌ وإنَّا سنسجدُ له. وَقِيْلَ: أعلمُ أن يوسف حيٌّ لم يَمُتْ؛ لأنه رويَ أن مَلَكَ الموتِ دخلَ على يعقوبَ، فقال له يعقوبُ: هل قبضتَ روحَ ولَدي يوسف في الأرواحِ؟ قال: لاَ وستراهُ عاجلاً. فعندَ ذلك قال يعقوبُ لأولادهِ كما قَالَ اللهُ تََعَالَى: ﴿ يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾؛ أي اذهَبُوا واسْتَخْبرُوا واطلبُوا يوسف وأخاهُ، وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: فالْتَمِسُوا يُوسُفَ وَأخَاهُ).
﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي لا تقنَطُوا من فَرَجِ اللهِ.
﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ وسُئل ابنُ عبَّاس عن الفرقِ بين التَّحْسِيسِ والتَّجْسِيسِ، فقالَ: (التَّحَسُّسُ فِي الْخَيْرِ، وَالتَّجَسُّسُ فِي الشَّرِّ). ورُوي أن يعقوبَ كتبَ كتاباً إلى عزيزِ مصرَ: بسمِ الله الرَّحمنِ الرحيم: من يعقوبَ بن اسحاقَ بن إبراهيم إلى عزيزِ مصرَ، أمَا فإنَّا أهلُ بيتٍ موَكَّل بنا البلاءُ، ابتلَى اللهُ جَدِّي بأن طُرِحَ في النار فجعلَها اللهُ عليه بَرْداً وسَلاَماً، وابتَلَى عمِّي إسماعيلَ بالذبْحِ، ففداهُ اللهُ بكَبْشٍ عظيمٍ، وابتلَى أبي بالعمَى، وابتُلِيتُ أنا بغَيْبَةِ ابنِي يوسُفَ فذهبَ بصَرِي، وزعمتَ أنَّ ابني سَرَقَ، وما ولدتُ سَارقاً، فخَلِّ سبيلَ ابني وإلا فإن اللهَ يفعلُ ما يشاء. ثم دفعَ الكتابَ إلى أولادهِ وقال لَهم: إذا دخلتُم عليه فقولوا: يَا أيُّاَ الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأهْلَنَا الضُّرُّ، فذلكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ ﴾؛ أي فلمَّا دخَلُوا في المرَّة الثالثةِ قالوا: يا أيُّها العزيزُ مسَّنَا وأهلَنا الشدَّةُ من القحطِ.
﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ﴾؛ أي قليلةٍ كاسِدَة، والْمُزْجَاةُ: هي الشيءُ اليسير الذي يدافَعُ بهِ. روي أنَّهم جاؤُوا بمتاعِ الأعراب مثل الأقطِ والْجُبْنِ والسَّمْنِ والصوفِ، وَقِيْلَ: جاؤُا بدراهم رَديئةٍ لا تنفَقُ في الطعامِ، وقال الضحاك: (النِّعَالُ وَالأَدْمُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾؛ أي وفِّر لنا الكيل، كما كنت توفر في السنين الماضية، ولا تنظر الى قلة بضاعتنا في هذه السنة، وتصدق علينا بنقصان السعر. وقال سفيان بن عيينة: (سَأَلُوا الصَّدَقَةَ وَهُمْ أنْبيَاءُ، وَكَانَتْ حَلاَلاً لَهُمْ، وَإنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)، وكره مجاهد أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا، فان الصدقة إنما هي ممن يبتغي الثواب، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ ﴾؛ أي على صدقاتهم بأفضل منها.


الصفحة التالية
Icon