قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ﴾؛ أي تَبْخَلُ بالمنعِ من حقُوقِهم الواجبة لهم، ومرادهُ: الذي يتركُ الإنفاقَ يكون بمنْزِلة مَن غُلَّتْ يداهُ إلى عُنقهِ، فلا يعطِي من مالهِ شَيئاً في الخير، وسُمِّي البخلُ بمثل هذه الصِّفات، يقولون: فلانٌ قصيرُ البَاعِ، وإذا كان كَريماً قالوا: طويلَ الباعِ، وقال صلى الله عليه وسلم لنسائهِ:" أسْرَعُكُنَّ لَحَاقاً أطْوَلُكُنَّ يَداً "فَكَانَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ؛ لأنَّهَا كَانَتْ أكْثَرَهُنَّ صَدَقَة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ ﴾؛ أي لا تُخرِجْ جميعَ ما في يدِكَ مع حاجتِكَ وحاجة عيالك إليه.
﴿ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾؛ ذا حَسرَةٍ تلومُ نفسَكَ وتُلاَمُ، وتبقَى الحسرَةُ على ما تُخرِجهُ من يدِكَ، والحسرةُ: الغَمُّ لانْحِسَارِ مَا فَاتَ، وحَسَرَ عن ذراعهِ يَحْسُرُ حَسْراً إذا كَشَفَ عنه. وقد قِيْلَ: إنَّ المرادَ بالخطاب في هذه الآية غيرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدَّخِرُ شيئاً لِغَدٍ، وكان يجوعُ حتى يشُدَّ الحجرَ على بطنهِ، وقد كان كثيرٌ من فُضَلاءِ الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يُنفقون جميعَ أمْلاكِهم في سبيلِ الله تعالى، مِثْلَ ما فعلَهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه حتى يبقَى في عباءة، فلم يُعنِّفْهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُنكِرْ عليهم لصحَّةِ يقينهم وشدَّةِ بصائرهم. وإنما نَهَى اللهُ تعالى عن الإفراطِ في الإنفاقِ مَن خِيفَ عليه الحسرةَ على ما يخرجهُ من يدهِ، كما رُوي:" أنَّ رَجُلاً أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذهَبٍ، فَقَالَ: وَجَدْتُهَا فِي مَعْدِنِ كَذا وَلاَ أمْلِكُ غَيْرَهَا، فَتَصَدَّقَ بهَا، فَأَخَذهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَمَاهُ بهَا حَتَّى لَوْ أصَابَهُ بهَا لَشَجَّهُ، ثُمَّ قَالَ: " إنَّ أحَدَكُمْ لَيَتَصَدَّقُ بجَمِيعِ مَالِهِ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ "ومن الدليلِ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَم يكن دَاخِلاً في هذا الخطاب: أن اللهَ تعالى قال ﴿ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾ ومعلومٌ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحسَّرُ على ما كان يملِكهُ. وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأن سببَ نُزولِ هذه الآية ما رُوي:" أنَّ امْرَأةً بَعَثَتِ ابْنَهَا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ: قُلْ: إنَّ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ دِرْعاً، فَإنْ قَالَ لَكَ حَتَّى يَأْتِينَا شَيْءٌ، فَقُلْ لَهُ: فَإنَّهَا تَسْتَكْسِيكَ قَمِيصَكَ، فَفَعَلَ الابْنُ كَمَا قَالَتْ أُمُّهُ، فَنَزَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَمِيصٌ يَخْرُجُ فِيْهِ إلَى الصَّلاَةِ "، فنَزلت هذه الآيةُ بما فيها من الدلالةِ بالنَّهي عن الإمساكِ، فيكون التحسُّرُ على هذا القولِ لتأخُّرِ خروجهِ إلى الصلاةِ بسبب القَميصِ.


الصفحة التالية
Icon