قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ﴾؛ أي لَم يكونوا بأعجبَ، فقد كان مِن آياتنا ما هو أعجبُ من ذلك. قال الزجَّاجُ: (أعْلَمَ اللهُ أنَّ قِصَّةَ أهْلَ الْكَهْفِ لَيْسَتْ بعَجِيْبَةٍ؛ لأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا أعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أصْحَاب الْكَهْفِ). والكهفُ: الغَارُ فِي الْجَبَلِ، والرَّقِيْمُ: قِيْلَ: هو وادٍ دونَ فلسطين، وهو الوادي الذي فيه أصحابُ الكهفِ، وَقِيْلَ: الرقيمُ لوحٌ من حجارةٍ، وَقِيْلَ: من رصاصٍ كتبوا فيه أسماءَ أهلِ الكهف وقصَّتَهم ثُم وضعوهُ على باب الكهفِ وهو على هذا التأويل بمعنى الْمَرْقُومِ؛ أي المكتوب، والرقيمُ: الْخَطُّ والعلامةُ، والرقيمُ: الكتابةُ. قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ قُرَيْشاً بَعَثُوا خَمْسَةَ رَهْطٍ إلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لَهُمْ: إنَّهُ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَاسْمُهُ مَحَمَّدٌ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَتِيمٌ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ، وَإنَّا نَزْعُمُ أنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْ مُسَيْلَمَةَ، فَإنَّهُ يَقُولُ: أنَا مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلاَّ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ - يَعْنُونَ مُسَيْلَمَةَ -. فَلَمَّا أتَى هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ الْمَدِيْنَةَ، أتَوا أحْبَارَ الْيَهُودِ وَعُلَمَائَهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ وَوَصَفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَخَاتَمَهُ، قَالُوا: نَحْنُ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا وَصَفْتُمُوهُ، وَلَكِنْ سَلُوهُ عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ، فَإنْ كَانَ نَبيّاً أخْبَرَكُمْ بِخصْلَتَيْنِ، وَلَمْ يُخْبرْكُمْ بالثَّالِثَةِ؟ فَإنَّا سَأَلْنَا مُسَيْلَمَةَ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَلَمْ يَدْرِ مَا هِيَ، وَأنْتُمُ سَلُوهُ عَنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَعَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ أصْحَاب الْكَهْفِ. فَرَجَعُوا وَأخْبَرُوا قُرَيْشاً بذلِكَ، فَسَأَلُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَأُخْبرُكُمْ غَداً، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللهُ. فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَشُقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾[الكهف: ٢٣ - ٢٤].
ثُم أخبرَهُ عن أصحاب الكهف وحديثِ ذي القرنين وخبرِ أمر الرُّوح، وحدَّثهُ أن مدينةً بالروم كان فيها ملكٌ كافر يدعو إلى عبادةِ الأوثان والنِّيران، ويقتلُ مَن خَالَفَهُ، وفي المدينةِ شابٌّ يدعو إلى الإسلامِ سرّاً، فتابعهُ فتيةٌ من أهلِ المدينة، فَفَطِنَ بهم الملكُ فأخذهم، ودفعَهم الى آبائهم يحفظونَهم، فمرُّوا بغلامٍ راع، فبايَعَهم ومعهُ كلبُهم حتى إذا أتَوا غاراً فدخلوهُ، وألقَى اللهُ عليهم النَّومَ سنين عدداً، والملكُ طالبٌ لَهم لَم يقِفْ على أمرِهم، وَعمِيَ عليه خبرُهم، فسدُّوا بابَ الكهف ليموتوا فيه إن كانوا هنالكَ. ثُم عَمَدَ رجلٌ إلى لوحِ رصاص، فكتبَ فيه أسماءَهم وأسماءَ آبائهم ومدينتَهم، وأنَّهم خرجُوا فراراً من دِين ملكِهم في شهرِ كذا في سنة كذا وألزقَهُ بالسدِّ، وكان السدُّ في داخل الكهفِ، وذكر القصةَ إلى آخرِها، فهذا اللوحُ الرصاص هو الرَّقِيْمُ. فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قُريشاً بذلك، فلما أتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قولَ اليهودِ أخبرَهم بخصلَتين ولَم يخبرهم بالثالثةِ، قال كفارُ قريشٍ:﴿ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾[القصص: ٤٨].
وقال محمَّدُ ابن اسحاق: (كَثُرَتْ في أهلِ الإنجيلِ الخطايا، وَطَغَتِ الملوكُ حتى عبدُوا الأصنامَ والأوثان، وفيهم بقايا على دينِ المسيحِ بن مريم متمسِّكون بعبادةِ الله وتوحيده. وكان ممن فعلَ ذلك ملكٌ مِن ملوكهم يقالُ له دقيانوس، وكان قد عَبَدَ الأصنامَ وذبَحَ للطواغيت، فسارَ حتى دخل مدينةَ أهلِ الكهف وهي أقسوس. فلما دخلَها عَظُمَ على أهلِ الإيْمان، واسْتَخْفَوْا منهُ وهربوا إلى كلِّ ناحيةٍ، فأراد دقيانوسُ أن يُجْمَعَ له أهلُ الإسلام، واتخذ شُرَطاً من الكُفَّارِ من أهلها وأمرَهم باتباعِ المسلمين، وأحصَرَهم فجعلوا يتبَعُون المسلمين حتى أخذوهم ومَضَوا بهم الى دقيانوس، فخيَّرهم بين القتلِ وبين عبادة الأوثان، فمنهم مَن رَغِبَ في الحياةِ، ومنهم من قالَ: لا أعبدُ غيرَ الله؛ فَقَتَلهُ. فلما رأى ذلك أهلُ الإيْمانِ جعلوا يصبرون للعذاب والقتل، فقتلَهم وقطعَ لحومَهم، وربطها على سورِ المدينة ونواحيها كلِّها، وعلى كلِّ بابٍ من أبوابها حتى عَظُمَتِ الْمِحْنَةُ على المسلمين. فلما رأى الفتيةُ ذلكَ قاموا وصَلَّوا واشتغلوا بالتسبيحِ والدُّعاءِ إلى اللهِ، وكانوا من أشرافِ الرُّوم، وكانوا ثَمانية نَفَرٍ، فَبَكَوا وتضرَّعوا وجعلوا يقولون: رَبُّنَا ربُّ السماواتِ والأرض لن ندعوَ من دونه إلَهاً لقد قُلنا إذاً شَطَطاً، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنةِ وارفعها عنهم. فبينَا هم كذلكَ إذ دخلوا عليهم الشُّرَطُ إلى مُصَلاَّهُمْ فوجدوهم سُجوداً يبكون ويتضرَّعون إلى اللهِ ويسألونَهُ أن ينجيَهم من دقيانوس وفِتْنَتِهِ، فقالوا لَهم: ما خلفكم من أمرِ الملك، انطلِقُوا اليه. ثُم خرجوا مِن عندهم الى دقيانوس وأخبروهُ بخبرهم، وقالوا: أنتَ تجمعُ الجمعَ وهؤلاء الفتية يعصونَ أمرك، فأرسَلَ إليهم الشُّرَطَ فأتوا بهم تفيضُ أعينُهم من الدَّمعِ، معفورةً وجوهُهم بالتراب، فقال دقيانوس: ما منعَكُم أن تشهدوا الذبحَ للأصنامِ، وتعبدُوها وتجعلوا أنفسَكم كغيرِكم، إختاروا إمَّا تعبدوا الأصنامَ مثل الناسِ، وإما أن نَقْتُلَكُمْ. فقال مكسلمينا: إن لَنَا إلَهاً تَملأُ السماوات والأرضِ عظمتهُ، لن ندعوَ من دونهِ إلَهاً أبداً، ولن نفعلَ هذا الذي تدعونا إليهِ، ولكنَّا نعبدُ اللهَ ونسبحهُ ونحمدهُ خالصاً من أنفسنا، إياهُ نعبدُ وإياه نسأل النجاةَ، وأما الأصنامَ فلا نعبدُها أبداً، إصنَعْ بنا ما بدَا لكَ). وقال الضحاك: (قال أصحابُ مكسلمينا كلهم لدقيانوس مثل هذه المقالة، فقال دقيانوسُ: إنِّي سأؤخِّرُكم، وأمهلِكُم حتى تراجعوا عقولَكُم، واجعلُ لكم مدَّة تتشاورون فيها، فإن أبيتُمْ طاعتي وخالفتم أمرِي وقعَتْ بكم العقوبةُ، وما منعَنِي أن أُعَجِّلَ قتلَكم إلاّ أنِّي أراكم شَبَاباً جديداً شبابكم، فلا أحبُّ أن أُهلِكَكم حتى أجعلَ لكم مدَّة تنظرون فيها ما يصلحُ لكم، ثم أمَرَ بحليةٍ كانت عليهم مِن ذهب وفضة فَنُزِعَتْ عنهم وأمرَ بإخراجهم من عنده. فعَمَدَ كلُّ واحدٍ منهم إلى بيتِ أبيه واخذ له منه زاداً، وخرجوا هاربينَ فمرُّوا بكلبٍ، فتبعَهم فطردوهُ ثُم تبعهم، ففعلوا ذلك مِراراً، فقال لَهم الكلبُ: ما تَخشونَ منِّي أنا أحبُّ أحبابَ الله، فمتى نِمتُم كنتُ أحرسُكم). وقال ابنُ عباس: (كانوا سبعةً هربوا ليلاً، فمرُّوا براعٍ ومعهُ كلبٌ، فتَبعَهم على دِينهم، فوصلوا إلى كهفٍ قريب من البلد فلبثوا فيه، ليس لَهم عملٌ إلاَّ الصلاةُ والصيام والتسبيحُ والتكبير والتحميدُ، وجعلوا نفقتَهم على يدِ واحد منهم يقالُ له: يَمليخا، فكان يشتري لَهم متاعَهم من المدينة سرّاً، وكان مِن أجمَلِهم وأجلدِهم، وكان إذا أرادَ أن يدخل المدينة يضعُ ثياباً كانت عليه حِسَاناً، ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يسألونَ الناس، ثُم يأخذ ورقةً ويشتري طعاماً، ويتجسَّسُ الأخبارُ، ويسمعُ هل يُذْكَرُ هو وأصحابهُ، ثُم يعودُ إلى أصحابهِ، فلَبثُوا كذلكَ ما لبثوا. ثُم إنَّ دقيانوس الجبار شدَّدَ على مَن بقي من المسلمين، وأمَرهم بالذبحِ للطواغيت، وكان يَمليخا حينئذ هناك متنكِّراً، فسمعَ بأنَّ دقيانوس يطلبُ الفتيةَ ويسألُ عنهم، فرجعَ يَمليخا هارباً إلى أصحابهِ وهو يبكي ومعهُ طعامٌ قليل، فأخبرَهم أنَّ دقيانوس يسألُ عنهم، ففَزِعُوا ووقفوا سُجُوداً يتضرَّعون إلى اللهِ، يتعوَّذون به مِن فِتْنَتِهِمْ، وذلكَ عند غروب الشَّمس فبينا هم كذلكَ إذ ضربَ اللهُ على آذانِهم في الكهفِ، وكلبُهم باسطٌ ذراعيهِ بباب الكهف، فأصابَهم ما أصابَهم وهم مؤمنونَ موقنون، ونفقتُهم عندَ رؤوسهم. فلما كان من الغدِ إلتمسَهُم دقيانوس فلم يجدهم فغَضِبَ غضباً شديداً، وأرسلَ إلى آبائهم فسألَهم عنهم، وقالَ: أخبرونِي عن أبنائِكم الْمَرَدَةَ الذين عَصَونِي، فقالوا: ما ندري أينَ ذهبوا، ولقد أخذُوا أموالَنا وهربوا، وليس لنا في ذلك ذنبٌ لأنَّا لَم نعصِكَ فلا تُعاقِبْنا فيهم. فخلَّى سبيلَهم وجعلَ لا يدري ما يصنعُ بالفتية، فبلغَهُ الخبرُ أنَّهم ارتفعوا الجبلَ فالتمَسَهم هناك حتى وجدُوا الكهفَ، فألقَى اللهُ في نفسهِ أن يَأْمُرَ بالكهفِ فيُسَدَّ عليهم. قال دقيانوس: سدُّوا بابَ الكهفِ، ودعوهم فيه يَموتون جُوعاً وعطشاً، وليكن كهفُهم الذي اختاروه قَبْراً لَهم، وهو يظنُّ أنَّهم أيقاظٌ يعلمون ما يُصْنَعُ بهم، وقد توفَّى اللهُ أرواحَهم في النومِ وكلبُهم باسطٌ ذراعيه بباب الكهف وقد غَشِيَهُ ما غشِيَهم، يُقَلَّبُونَ ذاتَ اليمين وذاتَ الشِّمال، وبقيَ دقيانوس ما بقِيَ، ثُم ماتَ وقرونٌ بعده كثيرة وجاءت ملوكٌ بعدَ ملوكٍ). وقيلَ: إنَّ دقيانوس لَمَّا أتى إلى كهفِهم يطلبُهم كان كلَّما أرادَ رَجُلٌ أن يدخُلَ عليهم الكهفَ أُرْعِبَ، فلم يُطِقِ الدخولَ، فجعلوا يقولون لو قدرنا أن ندخلَ عليهم لقِينَاهُم فلم يستطِعْ أحدٌ الدخولَ إليهم، قال: سُدُّوا عليهم بابَ الكهف فيموتُون جوعاً وعطشاً، ففعلوا ذلك. فلما مضَى على ذلكَ قرونٌ وأزمان جاءَ راعي غَنَمٍ إلى الكهفِ بغَنَمِهِ فأدركهُ المطرُ عندَ الكهفِ، ففتحَ الكهفَ ليدخل غنمه فيه مِن المطرِ فوجدهم هناك، فَرَدَّ اللهُ عليهم أرواحَهم، فجلسُوا فرحينَ مستبشرين، وظنُّوا أنَّهم أصبحُوا مِن ليلتهم، فقاموا إلى الصَّلاة فصلَّوا، لا تُرى في ألوانِهم ولا في أجسامهم شيء يكرهونَهُ، وهم يحسبونَ أنَّ دقيانوس في طلبهم. ثُم قالوا ليمليخا: ما الذي قالَ الناسُ في شأننا بالأمسِ؟ فقالَ: سمعتُ أنَّهم يلتمسونَكُم، فقال مكسلمينا: يا إخوتاهُ؛ إعلمُوا أنَّكم ملاقُو اللهَ فلا تكفروهُ بعد إيْمانِكم إذا طلبَكم غداً، فقالوا ليمليخا: إذهب إلى المدينة استمِعُ لنا الأخبارَ، وما الذي يذكرهُ الناسُ فينا عندَ دقيانوس. فدخلَ المدينةَ مُستخفياً يصدُّ عن الطريقِ؛ لئلاَّ يراهُ من الناس أحدٌ يعرفه فيُعلِمَ دقيانوس، ولَم يعلمْ يَمليخا أنَّ دقيانوس وقومَهُ قد هلَكُوا منذُ ثلاثِمائة سنة، فرأى يَمليخا على باب المدينة علامةَ أهل الإيْمان فعَجِبَ، وجعلَ ينظرُ يَميناً وشِمالاً مُستخفياً، ثُم ذهبَ إلى الباب الثانِي فرأى عليه كذلكَ، فخُيِّلَ إليه أنَّ المدينة ليست بالتي كانَ يعرفُ. ثُم رأى أُناساً كثيراً يتحدَّثون لَم يكن يراهم قبلَ ذلك، فخُيِّلَ إليه أنه حيرانٌ، وجعل يقولُ لعلَّ هذه غشيةٌ، ثُم سَمع الناسَ يتحدَّثون بحديث أهلِ الإسلام، ويحلِفُون بالله، ويذكرون عيسَى بن مريَم، فقال: لعلَّ هذه مدينةٌ أخرى، فقامَ كالحيران، فرآهُ إنسانٌ فسألَهُ ما هذه المدينة؟ فقالَ: هذه أفسوسُ، فقال: ذاهبُ العقل. ثُم دخلَ السُّوق ليشتري طَعاماً فأخرجَ الوَرِقَ الذي معهُ فأعطاها رَجُلاً وقال: بعنِي بهذه طعاماً، فعجِبَ الرجلُ من نقشِها وضربها، ثُم أعطاها رجلاً مِن أصحابهِ لينظرَ إليها، ثُم جعلوا يتطارحونَها بينَهم من رجلٍ إلى رجل، فقالوا: هذا أصابَ كنْزاً من كُنوز الأوَّلين، فإما أنْ تُشاركنا فيه، ونُخفِي أمركَ وإلاَّ سلَّمناك إلى السُّلطان يقتلُكَ؟فقال في نفسهِ: قد وقعتُ في الذي كنت احذرُ منه، فجعل يَمليخا لا يدري ما يقولُ لَهم، وفَزِعَ حتى أنهُ ما أطاقَ يخبرهم بشيءٍ، فلمَّا رأوهُ لا يتكلَّمُ أشاعوا خبرَهُ، وجعلوا يقودونَهُ في سِكَكِ المدينة وهم يقولون: هذا رجلٌ وجدَ كنْزًا، فاجتمعَ عليه أهلُ المدينة فجعلوا ينظرونَ إليه ويتعجبون، ويقولون: ما هذا الرجلُ مِن أهل المدينة، وما رأيناهُ فيها قط ولا نعرفهُ؟ ولو قال لَهم: أنا مِن هذه المدينة لَم يصدِّقوه، وكان متيقِّناً أنَّ أباهُ وإخوته في المدينةِ، وأنه يسألونه مِن جملةِ الناس إذا سَمعوا بخبرهِ. ثُم إنَّهم انطلقُوا به إلى رئيسِ المدينة ومدبري أمرِها وهما رجلان صالحان، اسمُ أحدهما آرنوس والآخر أسطوس، وظنَّ يَمليخا حين مَضَوا به أنَّهم يَمضون به إلى دقيانوس، فرفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقال: اللَّهُمَّ إلهَ السماءِ والأرض أفْرِغِ اليومَ عليَّ صبراً، وأولِج معي رُوحاً تؤيِّدُنِي به عندَ هذا الجبَّار. فلما انتهوا به إلى الرَّجُلين الصالحينِ سَكَنَ خوفهُ، فأخذ الرجلان الوَرِقَ، فنظرا إليه وعَجِبَا منهُ، وقالاَ: يا فَتَى أينَ الكَنْزُ الذي وجدتَهُ؟ هذا الوَرقُ يشهدُ عليكَ أنك وجدت كَنْزاً، فقال يَمليخا: واللهِ ما وجدتُ كَنْزاً، ولكن هذا وَرِِقُ آبائي، ونقشُ هذه المدينة وضربُها، ولكن لا أدري ما شأْنِي ولا أدري ما أقولُ لكم. فقال أحدُهما: مِمن أنتَ؟ فقال: أمَّا أنا فكنتُ أرى أنِّي مِن أهلِ هذه المدينة، فقال لهُ: مَن أبوكَ؟ ومَن يعرفُكَ بها؟ فأتاهم باسمِ لأبيه فلم يعرفوهُ، فقال لهُ أحدهما: أنتَ رجلٌ كذاب لا تُخبر بالحقِّ، فلم يدر يَمليخا ما يقولُ، فقال رجلٌ: هذا مجنونٌ، وقال آخرُ: إنه ليس بمجنون يجنِّنُ نفسَهُ حتى تطلقوهُ، ونظرَ اليه آخر شِزْراً وقال: أتظنُّ أنَّا نصدِّقُكَ ونطلِقُكَ؟ فإن هذه الوَرِقَ لضربهُ أكثرُ من ثلاثِمائة سنةٍ، وأنت غلامٌ شاب وليس عندنا مِن هذا الضرب درهمٌ ولا دينار. فقال يَمليخا: أتعرِفُونَ شيئاً أسألُكم عنه؟ قالوا: سَلْ؛ قال: ما فعلَ دقيانوس، قالوا لا نعرفُ اليومَ على وجه الأرضِ ملكٌ يسمَّى دقيانوس، ولَم يكن إلاّ ملكٌ قد هَلَكَ منذُ زمان طويلٍ، وهلكَتْ بعده قرونٌ كثيرة، فقال يَمليخا: واللهِ لقد كُنا فِتْيَةً وإنهُ أكرَهَنا على عبادةِ الأوثان، فهربنا منهُ عشيَّةَ أمس فَنِمْنَا، فلما انْتَبَهْنَا خرجتُ لأشتريَ لأصحابي طعاماً وأتجسَّسُ الأخبارَ، فإذا أنا كما تَرَوْنَ، فانطلِقُوا معي إلى الكهفِ أُريكم أصحابي. فلما سَمع أرنوس ما يقولُ يَِمليخا قالَ: يا قومِ لعلَّ هذا آيةٌ من آياتِ اللهِ جعلَها اللهُ لنا على يَدي هذا الفتى، فَامْضُوا بنا معهُ يُرينا أصحابَهُ. فمَضَوا معَهُ ومضى جميعُ أهلِ المدينة، فلمَّا سَمع الفتيةُ الذين في الكهفِ الأصواتَ وجَلَبَةَ الخيلِ مصعدة نَحوهم، وقد كان أبطأ عليهم يَمليخا، ظنُّوا أنه دقيانوس جاءَ في طلبهم، فسبَقَ يَمليخا القومَ وجاءَ إليهم فسألوهُ عن شأنهِ فأخبرَهم بالخبر كله، فعرفوا أنَّهم كانوا نِيَاماً بأمرِ الله ذلك الزَّمان كله، وإنَّما أُوْقِضُوا؛ ليكونُوا آيةً للناس وتصديقاً للبعثِ، وليعلمُوا أنَّ الساعةَ لا ريبَ فيها، فلما فَرَغَ يَمليخا من كلامهِ قَبَضَ اللهُ رُوحَهُ وأرواحَهم، وعَمِيَ على أولئكَ القومِ بابُ الكهفِ فلم يهتدوا إليه.