قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ﴾؛ أي اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ في القُرْآنِ خَبَرَ مريَمَ؛ لتعتبرَ الناسُ بدِينها وصلاحِها، والمعنى اذْكُرْ خبَرَها لأهلِ مكَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذِ ٱنتَبَذَتْ ﴾ أي تَنَحَّتْ من أهلِها، وتفرَّدت مِمَّن كانوا معَها في الدارِ إلى مكانٍ في جانب الشَّرق، جلست فيهِ؛ لأنَّها كانت في الشِّتاء، فجلست في مَشْرَقَةِ الشمسِ. وقال عكرمةُ: (أرَادَتِ الْغُسْلَ مِنَ الْحَيْضِ، فَتَحَوَّلَتْ إلَى مَشْرَقَةِ دَارِهِمْ لِلْغُسْلِ) ﴿ فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً ﴾؛ أي مِن دون أهلِها سِتْراً لئلاَّ يرَوها، فَـ؛ بينما هي في مشرقة الدار تغتسلُ من الحيضِ.
﴿ فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا ﴾، أي دخلَ عليها جبريل عليه السلام بعد ما فرغت من الاغتسالِ في صورة شابٍّ أمردَ حسنِ الوجه جَعْدَ الشعرِ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ﴾؛ وإنَّما أرسلَ اللهُ جبريلَ في صورة البشرِ؛ لتثبت مريَمَ وتقدرَ على استماعِ كلامه. قال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا رَأتْ مَرْيَمُ جِبْرِيلَ تَقَصَّدَ نَحْوَهَا نَادَتْهُ مِنْ بَعِيْدٍ).
﴿ قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾؛ أي إنْ كنتَ تقيّاً مُخلصاً مطيعاً، فستنتهي لتعوذِي بالله منكَ، وَقِيْلَ: إنَّ تقيّاً كان رجُلاً من أمثلِ الناسِ في ذلك الزمان، فقالت: إن كنتَ في الصلاحِ مثل التقيِّ، فإنِّي أعوذُ بالرَّحمنِ منكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا ﴾ أي جبريلَ عليه السلام، خُصَّ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى تشريفاً له، وسُمِّي روحاً؛ لأن الناسَ يَحْيَوْنَ بما جاء في أديانِهم، كما يحيون بأرواحِ أبدانِهم.


الصفحة التالية
Icon