قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ ﴾؛ أي لَمَّا ألزمَتْهُم الحجةُ، وعجزوا عن الجواب غَضِبُوا فقالوا: حرِّقوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريقهِ؛ لأنه يعيبُها ويطعنُ فيها، فإذا حرقتموهُ كان ذلك نصراً منكم إياها. وَقِيْلَ: معناهُ: وانتقموا لآلِهتِكُم وعظِّمُوها.
﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾؛ في هذا شيئاً. فاشتَغَلوا بجمعِ الحطب حتى كان الشيخُ الكبير يأتِي بالحطب تقرُّباً إلى آلِهتهم، وحتى أن المريضَ كان يُوصِي بكذا وكذا من مالهِ فيشتري به حَطَباً فيُلقَى في النار، وحتى أن المرأةَ لتغزلُ فتشتري به حطباً، وتلقيه في النارِ. قال ابنُ عمر: (إنَّ الَّذِي أشَارَ عَلَيْهِمْ بتَحْرِيْقِ إبْرَاهِيْمَ رَجُلٌ يُسَمَّى (هِيْزَنَ) فَخَسَف اللهُ بهِ الأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيْهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). فلما أجمعَ النمرودُ وقومه على إحراقِ إبراهيمَ حبسوهُ في بيتٍ وبَنَوا بيتاً كالحظيرةِ، فلذلك قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ ﴾[الصافات: ٩٧] ثُم جمعوا له أصلابَ الحطب مِن أنواع الخشب، حتى أن المرأةَ كانت إذا مرَّت تقولُ: إذا عافانِي اللهُ لأجمعنَّ حطباً لإبراهيمَ، وكانت المرأةُ تنذرُ في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبنَّ في نار إبراهيم التي يحرقُ فيها احتساباً لدينها. قال ابنُ اسحاق: (كانوا يجمعون الحطبَ شهراً، فلما أجمعوا الحطبَ شعَلُوا في كلِّ ناحية ناراً، فاشتعلت النارُ واشتدَّت حتى أن الطائرَ كان إذا مرَّ بها احترقَ من شدَّة وَهَجِهَا، ثُم عمَدُوا إلى إبراهيمَ وقيَّدوهُ، ثُم اتخذوا مَنْجَنِيْقاً ووضعوهُ فيه مقيَّداً مغلولاً. فصاحَتِ السماواتُ والأرض والملائكة صيحةً واحدة: يا ربَّنا إن إبراهيمَ ليس في أرضِكَ أحدٌ يعبدُكَ غيرهُ، أيُحْرَقُ؟! فَأْذنْ لنا في نُصرتهِ، فقال اللهُ: إن استعاذ بشيءٍ منكم أو دعاهُ فلينصره، فقد أذنتُ له في ذلك، وإن لَم يدعُ أحداً غيري فأنا أعلمُ به، فأنا وَلِيُّهُ، فَخَلُّوا بيني وبينَهُ. فلما أرادوا إلقاءَهُ في النارِ، أتاهُ خازنُ الماء فقال لهُ: إن أذنتَ أخمدتُ النارَ، فإن خزائنَ المياه والأمطار بيدي، وأتاهُ خازن الرِّياحِ وقال: إن شئتَ طيَّرتُ النارَ في الهواء، فقال إبراهيمُ: لا حاجةَ لِي إليكم، ثُم رفعَ رأسَهُ إلى السَّماء وقال: اللَّهُمَّ أنتَ الواحدُ في السماء، وأنا الواحدُ في الأرضِ، ليس في الأرضِ أحدٌ يعبدك غيري، حَسْبي اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ). وروي: أن إبراهيمَ قال حين أوثقوهُ ليلقوه في النارِ: لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ رَبُّ الْعَالَمِيْنَ، لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ، لاَ شَرِيْكَ لَكَ. قال: ثُم رَمَوا به في المنجنيقِ، فاستقبلَهُ جبريلُ عليه السلام وقال: يا إبراهيمُ ألَكَ حاجةٌ؟ قال: أمَّا إليكَ فلا. قال جبريل: قال: حَسْبي من سؤالِي علمهُ بحالِي، فقال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَوْ لَمْ يُتْبعْ بَرْدَهَا سَلاَماً لَمَاتَ مِنْ بَرْدِهَا، فَلَمْ تَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الأَرْضِ إلاَّ طُفِئَتْ وَخُمِدَتْ). قال السديُّ: (وَأخَذتِ الْمَلاَئِكَةُ بضَبْعَي إبْرَاهِيْمَ فَأَقْعَدُوهُ عَلَى الأَرْضِ، فَإذا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ وَوَرْدٌ أحْمَرُ وَنَرْجِسٌ). قال كعبُ: (مَا أحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إبْرَاهِيْمَ إلاَّ وِثَاقَهُ). قالوا: وكان إبراهيمُ في ذلك الموضعِ سبعةَ أيام، قال إبراهيمُ: ما كنتُ أياماً قط أنعمَ مني من الأيامِ التي كنتُ فيها في النارِ، ثُم يَصِفُ اللهُ ملكَ الظِّلِّ في صورةِ إبراهيم فأقعدَهُ فيها إلى جنب إبراهيم وهو يؤنسهُ، وبعثَ الله بقميصٍ من حرير الجنَّة، قال: فنظرَ النمرودُ مِن طرحٍ له فأشرفَ على إبراهيم، وما يشكُّ في موتهِ، فرأى إبراهيمَ في روضةٍ ورأى الْمَلَكَ قاعداً إلى جنبهِ والنارُ حواليه، فناداهُ النمرودُ: يا إبراهيمُ كبيراً إلَهُكَ الذي بلغَتْ قدرتهُ إلى أن حالَ بينك وبين نارِي حتى لَم تضرك. قال قتادةُ والزهريُّ: (مَا انْتَفَعَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بنَارٍ وَلاَ أحْرَقَتْ شَيْئاً إلاَّ وثَاقَ إبْرَاهِيْمَ، وَلَمْ تَبْقَ يَوْمَئِذٍ دَابَّةٌ إلاَّ أطْفَأَتْ عَنْ إبْرَاهِيْمَ النَّارَ إلاَّ الْوَزَعُ، فَلِذلِكَ أمَرَ صلى الله عليه وسلم بقَتْلِهِ، وَسَمَّاهُ فَاسِقاً). قال شعيبُ الجبائي: (أُلْقِيَ إبْرَاهِيْمُ فِي النَّار وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً، وَذُبحَ اسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِيْنَ، وَوَلَدَتْهُ سَارَةُ وَهِيَ بنْتُ تِسْعِيْنَ سَنَةً، وَلَمَّا عَلِمَتْ سَارَةُ بمَا أرَادَ اللهُ باسْحَاقَ اضْطَرَبَتْ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَتِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ).


الصفحة التالية
Icon