وقَولهُ تعالى: ﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾؛ أي ليشْهَدوا ما ندبَهم اللهُ إليه مما لَهم فيه نفعُ آخِرَتِهم، ويدخلُ في ذلك منافعُ الدُّنيا من التجارةِ بيعاً ورُخصةً. قال ابنُ جبير: (يَعْنِي بالْمَنَافِعِ التِّجَارَةَ)، وقال مجاهدُ: (هِيَ التِّجَارَةُ وَمَا يُرْضِي اللهَ مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). وعن عمرَ بنِ عبدِالعزيز أنه كان يقول إذا وَقَفَ بعرفةَ: (اللَّهُمَّ إنَّكَ دَعَوْتَ إلَى حَجِّ بَيْتِكَ، وَذكَرْتَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى شُهُودِ مَنَاسِكِكَ، وَقْدْ جِئْتُكَ فَاجْعَلْ مَنْفَعَةَ مَا تَنْفَعُنِي بهِ أنْ تُؤْتِيَنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَأنْ تقيَني عَذابَ النَّارِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ ﴾؛ قال الحسنُ: (الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْعَشْرُ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشِرِيْقِ)، وإنَّما قال لَها معدوداتٍ؛ لأنَّها قليلةٌ، وَقِيْلَ لتلكَ المعلوماتِ الحرصُ على علمِنا بحسابها من أجلِ وَقْفِ الحجِّ في آخرها، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفةَ. وقال أبو يوسُفَ: (الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أيَّامُ النَّحْرِ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشْرِيْقِ وَهِيَ ثَلاَثَةٌ بَعْدَ الْيَوْمِ الأوَّلِ مْنْ أيَّامِ النَّحْرِ، فَيَكُونُ الْيَوْمُ الأَوَّلُ مِنْ أيَّامِ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ دُونَ الْمَعْدُودَاتِ، وَالْيَوْمُ الآخِرُ مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ دُونَ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَوْمَيْنِ مِنْ وَسَطِهَا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ والْمَعْدُودَاتِ جَمِيْعاً)، وكان يستدلُّ على هذا القولِ في الأيَّام بهذه الآية، فإنه تعالى قالَ: ﴿ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ ﴾، فاقتضى ظاهرهُ أن المرادَ التسميةُ على ما ذُبحَ من بَهيمة بالْمُتْعَةِ والقِرَانِ. وأما على قول أبي حنيفةَ، فالمرادُ بالذِّكْرِ إكثارُ الذِّكرِ في أيامِ العَشْرِ، كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" مَا مِنْ أيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أفْضَلَ فِيْهِنَّ مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ، فَأَكْثِرُواْ فِيْهَا مِنَ التَّحْمِيْدِ وَالتَّكْبيْرِ وَالتَّهْلِيْلِ "وعلى هذا يكونُ معنى ﴿ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ ﴾ لِمَا رزقتُهم من بَهيمة الأنعامِ، كما قال﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ﴾[البقرة: ١٨٥] أي لِما هَدَاكُمْ، وقال محمَّدُ بن كعبٍ: الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ وَاحِدٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ ﴾ يعني الهدايا والضَّحايا من الإبلِ والبقرِ والغنم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ ﴾؛ قال الحسنُ: (وذَلِكَ أنَّ أهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إذا ذبَحُوا لَطَّخُواْ وَجْهَ الْكَعْبَةِ، وَشَرَّحُوا اللَّحْمَ فَوَضَعُوهُ عَلَى الْحِجَارَةِ حَتَّى تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ، وَقَالُواْ: لاَ يَحِلُّ لَنَا أنْ نَأْكُلَ شَيْئاً جَعَلْنَاهُ للهِ. فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نَضَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ألاَ نَضَعُهُ الآنَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا ﴾ يعني الأنعامَ التي تَنْحَرون.
﴿ وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ﴾ وهو الذي قد أصابَهُ ضررُ الجوعِ، و ﴿ ٱلْفَقِيرَ ﴾ الذي لا شيءَ لهُ. وَقِيْلَ: البائسُ الذي بَيَّنَ عليه أثرُ البُؤْسِ بأن يَمُدَّ يده إليكَ. وَقِيْلَ: البائسُ الزَّمِنُ. وإنَّما خَصَّصَ البائسَ الفقيرَ؛ لأنه أحوجُ من غيرهِ.