قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾؛ قال سِيْبَوَيْهِ: (مَعْنَاهُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَيْكُمْ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي؛ لأنَّهُ لَوْلاَ ذلِكَ لِنُصِبَ بالأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: ﴿ فَٱجْلِدُواْ ﴾ ). والْجَلْدُ في اللُّغة: ضَرْبُ الْجِلْدِ، يقالُ: جَلَدَهُ؛ إذا ضَرَبَ جِلدَهُ ورأسَهُ، إذا ضَرَبَ رَأسَهُ وَبَطْنَهُ، إذا ضَرَبَ بَطْنَهُ. ومعنى الآيةِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إذا كانا حُرَّيْنِ بالِغَين عاقلَين بكْرَين غيرِ مُحصنين، فَاضْرِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. فأمَّا إذا كانا مَملُوكَين، فيُحَدُّ كلُّ واحدٍ منهما خمسونَ جلدةً في الزِّنا لقولهِ تعالى في الإمَاءِ:﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ﴾[النساء: ٢٥] يعني إذا عَقِلْنَ فعليهنَّ نصفُ حدِّ الحرائرِ. وإذا كان الزَّانِي مُحصِناً فحدُّهُ الرجمُ؛ لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزَ بنَ مالك الأسلمِيِّ بزِنَاهُ، وكان قد أحْصَنَ. وكانَ عمرُ عليه السلام يقولُ: (إنِّي لأَخْشَى إنْ طَالَ الزَّمَانُ أنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى، فَيَضِلُّواْ بتَرْكِ الْفَرِيْضَةِ أنْزَلَهَا اللهُ، وَقَدْ قَرَأنَا: [الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ] وَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَلَوْلاَ أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَاب اللهِ لَكَتَبْتُ ذلِكَ عَلَى حَاشِيَةِ الْكِتَاب). واجتمعتِ الأمةُ على رجمِ الْمُحْصَنَيْنِ إذا زَنَيَا إلاّ الخوارجَ. وأما الإحصانُ في هذا فهو أن يكونَ حُرّاً بالِغاً عاقلاً مُسلماً قد تزوَّجَ قبلَ ذلك نِكاحاً صحيحاً، ودخلَ بزوجتهِ في وقتٍ كانا جميعاً فيه على صفةِ الإحصانِ، وهذا قولُ أبي حنيفةَ ومحمَّد، فإنَّهما يشرُطانِ هذه الشَّرائطَ السبعةَ في إحصانِ الزَّانِي. وأما أبو يوسُفَ فلا يجعلُ الإسلامَ من شرائطِ الإحصانِ، ولا يشترطُ كونُهما على صفةِ الإحصانِ وقتَ الدُّخولِ في النكاحِ الصحيح، فجعلَ الرجلَ البالغَ العاقل المسلمَ مُحْصَناً بالدخولِ بزوجتهِ الأَمَةِ والصبيَّة والكتابيَّة، ويجعلُ الزوجينِ الرَّقيقين محصَنين بالدخولِ في النكاحِ الذي بينَهم إذا أُعْتِقَا بعدَ ذلك، فإن لَم يوجد الدخولُ في ذلك النكاحِ بعد العِتْقِ إلى أن زَنَى واحدٌ منهما، فهُمَا غيرُ محصَنين عندَهُ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه:" أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَاب جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ: أنْشُدُكَ اللهُ إلاَّ قَضَيْتَ لِي بكِتَاب اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ؛ اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَاب اللهِ، فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم: " قُلْ " قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيْفاً عَلَى هَذا، فَزَنَى بامْرَأتِهِ، وَإنِّي أُخْبرْتُ أنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُهُ بمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيْدَةٍ، فَسَأَلْتُ أهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أنَّ عَلَى ابْنِي مِائَةَ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيْبَ عَامٍ، وَأنَّ عَلَى امْرَأةِ هَذا الرَّجْمَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكِتَاب اللهِ، الْوَلِيْدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أنَسُ إلَى امْرَأةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ؛ فَأَمَرَ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي لاَ تَأْخُذْكُمْ بهمَا رَأفَةٌ ورحمةٌ يَمنعُ عن إقامةِ الحدِّ، ويحلُّ بمقدار عددهِ وصفته، فإنه ليس من صفاتِ المؤمنينَ تضييعُ حُدودِ الله، وقولهُ تعالى ﴿ فِي دِينِ ٱللَّهِ ﴾، قال ابنُ عبَّاس: (فِي حُكْمِ اللهِ) كقولهِ﴿ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ ﴾[يوسف: ٧٦] أي في حُكْمِهِ.
﴿ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾؛ ولا تُعطِّلوا الحدودَ. قرأ ابنُ كثيرٍ (رَأفَةٌ) بفتحِ الهمزة. وإنَّما ذكرَ الضَّربَ بلفظِ الْجَلْدِ لئلاَّ يُبَرَّحَ ولا يبلغَ به اللحمَ. واختلفَ العلماءُ في قوله ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ فقال قومٌ: معناهُ: ولا تأخذُكم الرأفةُ بهما فتعطِّلوا الحدودَ ولا تقيموها شفقةً عليهما، وهو قولُ عطاء ومجاهدُ وقتادة وعكرمة وسعيدُ بن جبير والنخعي والشعبيُّ. وقال الزهريُّ وسعيدُ بن المسيَّب والحسنُ: (مَعْنَاهُ: اجْتَهِدُواْ فِي الْجَلْدِ وَلاَ تُخَفِّفُوا كَمَا يُخَفَّفُ فِي حَدِّ الشُّرْب، بَلْ يُوجَعُ الزَّانِي ضَرْباً، وَلاَ يُخَفَّفُ رَأفَةً لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لاَ تَأْخُذُكُمْ بهِمَا فَتُخَفِّفُواْ الضَّرْبَ، بَلْ أوْجِعُوهُمَا ضَرْباً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لِيَكُنْ إقامةُ الحدِّ عليهما بحضرةِ جماعةٍ من المؤمنين ليستفيضَ الخبرُ بهما، ويُبَلِّغَ الشاهدُ الغائبَ، فيرتدعُ الناس عن مثلهِ، ويرتدعُ المضروبُ ويستحيي فلا يعودُ إلى مثلِ ذلك. واختلَفُوا في مبلغِ عدد الطائفةِ، فقال الزهريُّ: (أقَلُّهُ ثَلاَثَةٌ)، وقال ابنُ زيدٍ: (أرْبَعَةٌ بَعْدَ شُهُودِ الزِّنَا)، وقال قتادةُ: (نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ). وفي الخبرِ:" إقَامَةُ حَدٍّ فِي أرْضٍ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ مَطَرِ أرْبَعِيْنَ يَوْماً "وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" يَا مَعْشَرَ النَّاسِ؛ اتَّقُوا الزِّنَا فَإنَّ فِيْهِ سِتَّ خِصَالٍ؛ ثلاَثٌ فِي الدُّنْيَا وَثَلاَثٌ فِي الآخِرَةِ، فَاللاَّتِي فِي الدُّنْيَا: تُذْهِبُ الْبَهَاءَ، وَتُورِثُ الْفَقْرَ، وَتُنْقِصُ الْعُمْرَ. وَأمَّا اللاَّتِي فِي الآخِرَةِ: فَتُوجِبُ السُّخْطَ؛ وَسُوءَ الْحِسَاب؛ وَالْخُلُودَ فِي النَّارِ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" أعْمَالُ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى الزُّنَاةِ "وعن وهب بن مُنبه قال: (مكتوبٌ في التوراةِ: الزَّانِي لا يَموتُ حتى يفتقرَ، والقوَّادُ لا يَموتُ حتى يعمَى). فإن قيلَ: لِمَ بدأ اللهُ بذكرِ الزَّانيةِ قبل ذِكر الزَّانِي فقالَ تعالى ﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي ﴾، وبذكرِ السَّارقِ قبلَ ذِكر السَّارقةِ في آيةِ السَّرقة فقالَ:﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ ﴾[المائدة: ٣٨]؟ قِيْلَ: لأنَ الرجُلَ هو الذي يسرقُ غالباً، والمرأةُ هي السببُ في الزِّنا غالباً، فأخرجَ الخطابَ في المؤمنين على الأغلب.