قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾؛ وذلكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ إلَى سَفَرٍ أقرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطلِقِ، فَخَرَجَ فِيْهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ كُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُحْمَلُ فِيْهِ حَتَّى إذا فَصَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ وَرَجَعَ وَدُرْنَا إلَى الْمَدِيْنَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذاتَ لَيْلَةٍ قُمْتُ حِيْنَ آذنُوا بالرَّحِيْلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أقْبَلْتُ إلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْري فَإذا عِقْدِي قَدِ انْقَطَعَ، وَكَانَ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ، فَرَجَعْتُ ألْتَمِسُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ. فَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي، فَحَمَلُواْ هَوْدَجِي عَلَى بَعِيْرِي الَّذِي كُنْتُ أرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنِّي فِيْهِ، وَكُنَّ نِسَاءً إذْ ذاكَ خِفَافاً لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثُقْلَ الْهَوْدَجِ حِيْنَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَاريَةٌ حَدِيْثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُواْ الْجَمَلَ وَسَارُواْ، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيْبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيْهِ، وظَنَنْتُ أنَّ الْقَوْمَ يَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ. فَبَيْنَمَا أنَا جَالِسَةٌ فِي مَجْلِسِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَى إلَيَّ فَعَرَفَنِي حِيْنَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ رَآنِي قَبْلَ أنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إلاَّ باسْتِرْجَاعِهِ حِيْنَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بجِلْبَابي، فَوَاللهِ مَا كَلَّمَنِي بكَلِمَةٍ غَيْرِ اسْتِرْجَاعِهِ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطَأْتُ عَلَى يَدِهَا وَرَكِبْتُهَا، وَانْطَلَقَ يَقُودُ فِي الرَّاحِلَةِ حَتَّى أتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُواْ وَقْتَ الظَّهِيْرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلْكَ فِي شَأْنِي، وخَاضَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ وَمُسْطَحُ بْنُ أثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بنْتُ جَحْشٍ الأَسْدِيَّةُ فِي ذلِكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ. فَقَدِمْتُ الْمَدِيْنَةَ، فَأَصَابَنِي مَرَضٌ حِيْنَ قَدِمْتُهَا شَهْراً، وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، وَلاَ أشْعُرُ بشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُنِي فِي وَجْهِي لاَ أرَى مِنْهُ اللُّطْفِ الَّذِي كُنْتُ أرَى مِنْهُ إذا مَرِضْتُ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ، إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ فَيَقُولُ: " كَيْفَ تِيْكُمْ؟ " فَذلِكَ يُحْزِنُنِي وَلاَ أشْعُرُ بالسِّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقْهْتُ. فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مْسطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهِيَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلاَ نَخْرُجُ إلاَّ مِنْ لَيْلٍ إلَى لَيْلٍ، وَذلِكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذ الْكْنُفَ، وَأمْرُنَا أمْرُ الْعَرَب الأَوَّلِ فِي التَّبَرُّزِ. فَانْطَلَقْتُ أنَا وَأُمُّ مُسْطَحٍ - وَهِيَ عَاتِكَةُ بنْتُ أبي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بنْتُ صَخْرٍ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ، وَابْنُهَا مِسْطَحْ بْنُ أثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب - فَأَقْبَلْنَا حَتَّى فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الطَّرِيْقِ عَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مُرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٍ! فَقُلْتُ لَهَا: بئْسَ مَا قُلْتِ! أتَسُبيْنَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً؟ قَالَتْ: أي هَنَتَاهُ، أي أوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذا قالَ؟ فَأْخْبَرَتْنِي بقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضاً إلَى مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إلَى بَيْتِي، دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " كَيْفَ تِيْكُمْ؟ " قُلْتُ: أتَأْذنُ لِي أنْ آتِي أبَوَيَّ؟ وَإنَّمَا قُلْتُ ذلِكَ حِيْنَئِذٍ لأَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَجْئْتُ أبَوَيَّ، فَقُلْتُ لأُمِّي: يَا أُمَّاهُ! مَاذا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: أيْ بُنَيَّةِ هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأةٌ قَطُّ وَضِيْئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إلاَّ وَأكْثَرْنَ عَلَيْهَا. قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بهَذا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَمَكَثْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، ثُمَّ أصْبَحْتُ أبْكِي. وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَعَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ حِيْنَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيَ يَسْأَلُهُمَا وَيسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِي وَبالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ أهْلُكَ وَمَا نَعْلَمُ إلاَّ خَيْراً. وَأمَّا عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيْرٌ، وَإنْ تَسْأَلِ الْجَاريَةِ تَصْدُقْكَ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيْرةَ جَارِيَةَ عَائِشَةَ فَقَالَ: " أيْ بَرِيْرَةَ؛ هَلْ رَأيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيْبُكِ فِي أمْرِ عَائِشَةَ؟ ". فَقَالَتْ: لاَ؛ وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ نَبيّاً مَا رَأيْتُ عَلَيْهَا أمْراً قَطٌّ أغْمَضَتُهُ عَلَيْهَا أكْثَرَ مِنْ أنَّهَا حَدِيْثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِيْنِ أهْلِهَا فَتَأتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. قَالتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْذرَ مِنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِيْنَ؛ مَنْ يَعْذُرُنِي فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أذاهُ فِي أهْلِي، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ فِي أهْلِي إلاَّ خَيْراً؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَاريُّ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أنَا أعْذُرُكَ مِنْهُ، إنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أمْرَكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْخَزْرَجِيُّ وَكَانَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذبْتَ لَعَمْرُ اللهِ، لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذلِكَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بَنُ حُصَيْنٍ؛ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؛ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذبْتَ لَعَمْرُ اللهِ؛ لَتَقْتُلُهُ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِيْنَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أنْ يَقْتَتِلُواْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَحْفَظُهُمْ حَتَّى سَكَنُواْ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَكَثْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَأبَوَيَّ يَظُنَّانِ أنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبدِي، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأنَّا أبْكِي، اسْتَأْذنَتْ عَلَيَّ امْرَأةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي. فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذلِكَ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيْلَ لِي مَا قِيْلَ، وَقَدْ لَبثْتُ شَهْراً لاَ يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي بشَيْءٍ. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: " أمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ؛ فَإنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذا وَكَذا، فَإنْ كُنْتِ بَرِيْئَةً فَسَيُبَرِّؤُكِ اللهُ، وَإنْ كُنْتِ قَدْ ألْمَمْتِ بذنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ ثُمَّ تُوبي إلَيْهِ، فَإنَّ الْعَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بالذنْب ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ ". قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلُصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبي: أجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيْمَا قَالَ. فَقَالَ: وَاللهِ لاَ أدْرِي مَا أقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لأُمِّي: أجِيبْي عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا أدْرِي مَا أقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: وَأنَّا جَارِيَةٌ حَدِيْثَةُ السِّنِّ لاَ أقْرَأُ كَثِيْراً مِنَ الْقُرْآنِ، وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ إنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ هَذا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أنْفُسِكُمْ وَصَدَّقُتُمْ بهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إنِّي بَرِيْئَةٌ وَاللهِ يَعْلَمُ أنِّي بَرِيْئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي فِي ذلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بأَمْرٍ وَاللهُ يَعْلَمُ إنِّي بَرِيْئَةٌ لَتُصَدِّقٌونِي، وَاللهِ مَا أجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إلاَّ مَا قَالَ أبُو يُوسُفَ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ﴾[يوسف: ١٨].
قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشٍ، وَأنَا وَاللهِ أعْلَمُ حِيْنَئِذٍ أنِّي بَرِيْئَةٌ، وَأنَّ اللهَ مُنَزِّلٌ ببَرَاءتِي، وَلَكِنْ وَاللهِ مَا كُنْتُ أظُنُّ أنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْياً يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فِيَّ بأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ رُؤْيَا يُبْرِّؤُنِي اللهُ بهَا. قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَجْلِسِهِ وَلاَ خَرَجَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى تَغَشَّاهُ الْوَحْيُ وَأخَذهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرْحَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، حَتَّى أنَّهُ لَيَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِنَ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِئ. فَلَمَّا سُرِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا هُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا أنْ قَالَ: " أبْشِرِي يَا عَائِشَةُ؛ إنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأكِ " فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إلِيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أقُومُ إلَيْهِ وَلاَ أحْمَدُ إلاَّ اللهَ سُبْحَانَهُ الَّذِي أنْزَلَ بَرَاءَتِي، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ وَهِيَ عَشْرُ آيَاتٍ. فَلَمَّا أنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتِي قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ -: وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئاً أبَداً بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ ﴾[النور: ٢٢] إلى قولهِ تعالى﴿ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾[النور: ٢٢] قَالَ أبُو بَكْرٍ: بَلَى؛ وَاللهِ إنِّي أُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. وَأعَادَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ وَقَالَ: لاَ أنْزِعُهَا مِنْهُ أبَداً. ثُمَّ إنَّ الْخَبَرَ بَلَغَ إلَى صَفْوَانَ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! وَاللهِ مَا كَشَفْتُ كَنِفَ أُنْثَى. فَقُتِلَ شَهِيْداً فِي سَبيْلِ اللهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَتْ: وَقَعَدَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ لِحَسَّانِ ابْنِ ثَابتٍ فَضَرَبَهُ بالسَّيْفِ، وَقَالَ حِيْنَ ضَرَبَهُ: تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإنَّنِي غُلاَمٌ هُوَجِيتُ لَسْتُ بشَاعِرِوَلَكِنَّنِي أحْمِي حِمَايَ وَأنْتَقِمُ مِنَ الْبَاهِتِ الرَّامِي الْبُرَاءَ الطَّوَاهِرفَصَاحَ حَسَّانُ وَاسْتَغَاثَ بالنَّاسِ عَلَى صَفْوَانَ، وَجَاءَ حَسَّانُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغِيْثُ بهِ عَلَى صَفْوَانَ فِي ضَرْبهِ إيَّاهُ، فَسَأَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَهَبَ لَهُ ضَرْبَةَ صَفْوَانَ إيَّاهُ، فَوَهَبَهَا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَوَّضَهُ عَلَيْهَا حَائِطاً مِنْ نَخْلٍ عَظِيْمٍ وَجَاريَةً رُومِيَّةً. ثُمَّ بَاعَ حَسَّانُ ذلِكَ الْحَائِطِ مِنْ مُعَاويَةَ فِي ولاَيَتِهِ بمَالٍ عَظِيْمٍ، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ: حَصَانٌ رزَانٌ مَا تُزَنَّ برِيْبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِخَلِيَّةُ خَيْرِ النَّاسِ دِيْناً وَمَنْصَباً نَبيِّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِعَقِيْلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِب كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِمُهَذبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خَيَمَهَا وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٌ وَبَاطِلِفَإنْ كَانَ مَا قَدْ جَاءَ عنِّي قُلْتُهُ فَلاَ رَفَعْتُ سَوْطِي إلَيَّ أنَامِلِيفَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حُييْتُ وَنُصْرَتِي لآلِ رَسُولِ اللهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِلَهُ رُتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ فَضْلُهَا تَقَاصَرُ عَنْهَا سَطْوَةُ الْمُتَطَاولِثُمَّ أمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالَّذِيْنَ رَمَواْ عَائِشَةَ فَجُلِدُواْ جَمِيْعاً ثَمَانِيْنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ وهم أربعةٌ: حسَّانُ؛ ومُسْطَحُ؛ وعبدُالله بنُ أُبَي بن سَلُولٍ؛ وَحَمْنَةُ بنْتُ جَحْشٍ. وَقِيْلَ: الْعُصْبَةُ من الواحدِ إلى الأربعين. والإفْكُ في اللغة: الْكَذِبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ ﴾ خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ولأبي بكرٍ ولعائشةَ فيما لَحِقَهم من الْحُزْنِ والغمِّ الشديد. والمعنى: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بل هو خيرٌ لكم؛ لأنكم تُؤْجَرُونَ على ما قيلَ لكم من الأذى، وبما يكتبُ لكم من الثواب في الآخرة على الصَّبر، ولِمَا بَيَّنَ اللهُ من طهارةِ عائشة وبرائَتها بآياتٍ تُتْلَى في الْمِحْراب إلى يومِ القيامة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ ﴾؛ أي لكلِّ أمرئٍ من الخائضِين في هذا الأمر جزاءُ ما كسبَ من الإثمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ ﴾؛ أي والذي تَحَمَّلَ مُعظَمَهُ فبدأ بالخوضِ فيه وهو عبدُالله بن أُبَيّ هو الذي بالغَ في إشاعةِ هذا الحديثِ، وكان أهلُ الحديثِ يجتمعون عندَهُ ويسيقون ذلك بأمرهِ.
﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ يصْغُرُ في مقابلتهِ كلَّ عذابٍ يكون في الدُّنيا. قرأ حُميد الأعرجُ ويعقوب (كُبْرَهُ) بضم الكافِ، قال أبو عمرِو بن العلاء: هُوَ خَطَأٌ لأَنَّ الْكُبْرَ هُوَ بضَمِّ الكَافِ فِي الْوَلاَءِ وَالسِّنِّ، وَمِنْهُ الْحَدِيْثُ" الْوَلاَءُ الْكُبْرُ "وروى ابن أبي مليكة عن عائشةَ قالت في حديثِ الإفك: (ثُمَّ رَكِبْتُ وَأخَذ صَفْوَانُ بالزِّمَامِ، فَمَرَرْنَا بمَلإ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذا؟ قَالُواْ: عَائِشَةُ، قَالَ: وَاللهِ مَا نَجَتْ مِنْهُ وَلاَ نَجَا مِنْهَا، وَقَالَ: امْرَأةُ نَبيِّكُمْ بَاتَتْ مَعَ رَجُلٍ حَتَّى أصْبَحَتْ، ثُمَّ جَاءَ يَقُودُهَا. وَشَرَعَ فِي ذلِكَ حَسَّانُ وَمِسْطَحُ وَحَمْنَةُ، ثُمَّ فَشَا ذلِكَ فِي النَّاسِ). وقولهُ تعالى ﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ يريدُ في الدُّنيا الجلدَ ثَمانين جلدةً، وفي الآخرةِ يُصَيِّرُهُ اللهُ إلى النار.