قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ﴾؛ في الآيةِ أمرٌ بالتَّحَفُّظِ عن الهجومِ عن ما لا يُؤْمَنُ من العوراتِ، وإلى هذا" أشارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قالَ للرَّجُلِ الذي قالَ لهُ: أسْتَأْذِنُ عَلَى أخَوَاتِي؟ قَالَ: " إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنُ رَأيْتَ مِنْهَا مَا تَكْرَهُ " "أيْ ربَّما تدخلُ عليها وهي منكشفَةٌ فترى ما تكرهُ. ومعنى قولهِ تعالى ﴿ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ ﴾ أي حتى تَسْتَأْذِنُّوا، والاسْتِئْنَاسُ هو الاسْتِعْلاَمُ ليعلمَ مَن في الدار، وذلك يكون بقَرْعِ الباب والتَّنَحْنُحِ وخَفْقِ النَّعْلِ. وكان أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وابن عباس والأعمشُ يقرأونَها (حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أهْلِهَا). وَقِيْلَ: إن في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ تقديرهُ: حتى تُسَلِّمُوا على أهلِها وتَسْتَأْذِنُوا، وهو أنْ يقولَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ؛ أدْخُلُ؟. ورُوي أنَّ" أعرابياً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ألِجُ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمَةٍ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةٌ: " قُومِي إلَى هَذا فَعَلِّمِيْهِ، فَإنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يَسْتَأْذِنُ، قُولِي لَهُ: تَقُولُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ؛ أدْخُلُ؟ " ". وعن زينبَ امرأةِ ابن مسعود قالت: (كَانَ عَبْدُاللهِ إذا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إلَى الْبَاب تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ؛ كَرَاهَةَ أنْ يَهْجُمَ عَلَيْنَا وَيَرَى أمْراً يَكْرَهُهُ). وعن أبي أيُّوب قالَ: (يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بالتَّكْبيْرَةِ وَالتَّسْبيْحَةِ وَالتَّحْمِيْدَةِ، وَيَتَنَحْنَحُ يُؤْذِنُ أهْلَ الْبَيْتِ). ويُروى أنَّ أبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ رضي الله عنه أتَى إلَى مَنْزِلِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ؛ هَذا عَبْدُاللهِ بْنُ قَيْسٍ؛ هَلْ أدْخُلُ؟ فَلَمْ يُؤْذنْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ؛ هَذا أبُو مُوسَى. فَلَمْ يُؤْذنَ لَهُ، فَذهَبَ فَوَجَّهَ عُمَرُ بَعْدَهُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَسَأَلَهُ عَمَّا مَنَعَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ، فَإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فَارْجِعْ ". فَقَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه: لَتَأْتِيَنِّي بالْبَيِّنَةِ وَإلاَّ عَاقَبْتُكَ! فَانْطَلَقَ أبُو مُوسَى وَأتَى بأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأبي سَعِيْدٍ الْخُدْريِّ فَشَهِدَا بذلِكَ، وَقَالَ لَهُ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذلِكَ؛ فَلاَ تَكُونَنَّ عَذاباً عَلَى أصْحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا فَعَلْتُ؟! إنَّمَا أنَا سَمِعْتُ بشَيْءٍ فَأَحْبَبْتُ أنْ أتَثَبَّتَ. ورُوي" أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أأسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: لَيْسَ لَهَا خَادِمٌ غَيْرِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْتُ؟ قَالَ: " أتُحِبُّ أنْ تَرَاهَا وَهِيَ عَرْيَانَةٌ؟ " قَالَ: لاَ، قَالَ: " فَاسْتَأْذِنْ " ". وَعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بغَيْرِ إذْنِهِمْ؛ حَلَّ لَهُمْ أنْ يَفْقَأُواْ عَيْنَهُ "وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم" أنَّهُ رَأى رَجُلاً اطَّلَعَ فِي حُجْرَتِهِ وَبيَدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُدْراً يَحُكُّ بهِ رَأسَهُ، فَقَالَ: " لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تُرِيْدُ أنْ تَنْظُرَ إلَى عَوْرَةٍ لَفَقَأْتُ بهَذا عَيْنَكَ، إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذانُ مِنْ أجِلِ النَّظَرِ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ أي ذلكَ الاستئذانُ خيرٌ لكم من الدخول بغيرِ إذنٍ لكي تذكرون منه، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا ﴾؛ معناهُ: فإن لَم تجدُوا في البيوتِ أحداً من سُكَّانِها فلا تدخلوها.
﴿ حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾؛ وكذلكَ لو وجدُوا البيوتَ خاليةً لَم يَجُزْ دخولُها أيضاً إلاّ بإذنِ صاحبها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ﴾؛ أي إذا اُمِرْتُمْ بالانصرافِ فانصرفوا وتقوَّسُوا على باب البيت فلعلَّ صاحبَ البيتِ لا يرضى أن يقعَ بصرُ المستأذنِ على أحدٍ من حَرَمِهِ، وكذلك لو لَم يقُلْ لكم صاحبُ الدار ارجعوا، ولكن وُجِدَ منهُ ما يدلُّ على ذلك وجبَ الرجوعُ، لقوله صلى الله عليه وسلم:" الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ، فإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فَارْجِعْ "ورُوي" الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ: مَرَّةٌ يَسْتَمِعُونَ، وَمَرَّةٌ يَسْتَصْلِحُونَ، وَمَرَّةٌ يَأْذنُونَ "وقولهُ تعالى ﴿ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ﴾ أي الرجوعُ أطهَرُ وأنفعُ لدِينكم من الجلوسِ على أبواب الناس.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾؛ أي بما تعملونَ من الدُّخول بإذنٍ وغير إذن عالِمٌ. فلما نزلَتْ آيةُ الاستئذان؛ قالوا: فكيفَ بالبيوتِ التي بين مكَّة والمدينة والشَّام على ظهرِ الطَّريق ليس فيها ساكنٌ؟ فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ﴾؛ بغيرِ استئذانٍ. وَقِيْلَ: أرادَ بذلك المواضعَ التي لا يختصُّ سكانُها أحداً دون آخر مثل الخاناتِ والرِّباطَاتِ التي تُتَّخَذُ للمسافرينَ يتظَلَّلون فيها من الحرِّ والبردِ، ويدخلُ في هذا أخذُ ما جرتِ العادةُ بأخذه مثل النواتِ والْخِرَقِ الملقاةِ في الطريق، ويجوز أن يكون المرادُ بالبيوتِ في هذه الآية بيتُ التُّجَّار التي في الأسواقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ﴾؛ أي منافعُ من اتِّقاء الحرِّ والبرد والاستمتاعِ بها. قال مجاهدُ: (كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي طُرُقِ الْمَدِيْنَةِ أقْتَاباً وَأمْتِعَةً فِي الْبُيُوتِ لَيْسَ فِيْهَا أحَدٌ، وَكَانَتِ الطُّرُقُ إذْ ذاكَ آمِنَةً، فَأُحِلَّ لَهُمْ أنْ يَدْخُلُوهَا بغَيْرِ إذْنٍ). وقال عطاءُ: (مَعْنَاهُ بالْمَتَاعِ هُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلاَءِ وَالْبَوْلِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾؛ أي لا يخفَى عليه شيءٌ من أعمالِكم.


الصفحة التالية
Icon