قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي قالَ له فرعونُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِيْنَ؟ أي قالَ له فرعونُ: أيُّ شَيْءٍ رَبُّ العالَمين الذي تدعُونِي إليهِ.
﴿ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ﴾؛ بأنَّ المستحِقَّ للربوبيَّة مَن يكون هذه صفتهُ، وأنَّ هذه الأشياءَ التي ذكرتُ ليست مِن فِعْلِكم. فلما قالَ موسى ذلك تَحَيَّرَ فرعونُ ولَم يَرُدَّ جَواباً ينقضُ به هذا القولَ. ﴿ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ﴾؛ مقالةَ موسَى؟! وَ ﴿ قَالَ ﴾ موسَى: ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ بَيَّنَ أنَّ المستحقَّ للربوبية من هو ربُّ أهلِ كلِّ عصرٍ وزمان؛ أي الذي خَلَقَ آباءَكم الأوَّلين، وخلَقَكم من آبائِكم. فلم يَقْدِرْ فرعونُ على جوابهِ، فـ ﴿ قَالَ ﴾ فرعونُ لجلسائهِ: ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾؛ أي ما هذا بكلامٍ صحيح إذ يزعمُ أن لَهُ إلَهاً غَيْرِي. فلم يَشْتَغِلْ موسَى بالجواب عن ما نَسَبَهُ إليه من الجنونِ، ولكن اشتغلَ بتأكيدِ الْحُجَّةِ والزِّيادةِ.
﴿ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ توحيدَ اللهِ، فإن كنتم ذوي عقولٍ لَمْ يَخْفَ عليكم ما أقولُ. فلم يُجِبْهُ فرعونُ بشيء ينقضُ حجَّته، بل هدَّدَهُ و ﴿ قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ ﴾؛ أي لأَحْبسَنَّكَ مع مَن حبستهُ في السِّجنِ. ظَنَّ بجهلهِ أن يخافَهُ ويتركَ عبادةَ الله ويتخِذ فرعونَ إلَهاً. وكان سجنُ فرعونَ أشدُّ من القتلِ؛ لأنه كان إذا حَبَسَ الرجلَ طَرَحَهُ في مكانٍ وحدَهُ لا يسمعُ فيه شيئاً، ولا يُبْصِرُ فيه شيئاً، وكان يُهْوَي به في الأرضِ. و ﴿ قَالَ ﴾ موسَى لفرعونَ حين توعَّدَهُ بالسِّجنِ: ﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ ﴾؛ يعنِي لو جِئْتُكَ بأمرٍ ظاهر تعرفُ فيه صِدْقِي وكَذِبَكَ. و ﴿ قَالَ ﴾؛ فرعونُ على وجهِ التهزِئَةِ ﴿ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾.
﴿ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾ أي حَيَّةٌ صفراءُ، ذكَرٌ عظيمٌ أعظمُ ما يكون من الحيَّاتِ، قال فرعونُ: فَهَلْ غَيْرُ هَذِهِ! ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾؛ مِن جيبهِ.
﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ ﴾؛ بيَاضاً نُورِيّاً لَها شعاعُ الشَّمسِ.
﴿ لِلنَّاظِرِينَ ﴾.
فإنْ قِيْلَ: كيف سَمَّى العصا ثُعباناً في هذه الآيةِ، وسَماها جَاناً في آيةٍ أُخرَى حيثُ قال﴿ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾[القصص: ٣١] والجانُّ الخفيفةُ؟ قُلْنَا: إنَّما سَمَّاها ثُعباناً لعِظَمِ حسِّها، وسَمَّاها جَانَاً لسُرعَةِ مِشْيَتِهِ وحركتهِ، وفي ذلك ما يدلُّ على عِظَمِ الآيةِ. فلم يكن لفرعونَ دفعٌ لِمَا شاهدَ إلاَّ أنْ قَالَ: هَذا " سِحْرٌ " سَحَرْتُمُوهُ، فأوهَمَ أصحابَهُ أنه لا صِحَّةَ لهُ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَكَانَ الْمَلأُ حَوْلَهُ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أشْرَافِ قَوْمِهِ، عَلَيْهِمْ الأَسْوِرَةُ) فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ هَذا لَسَاحِرٌ حَاذِقٌ بالسِّحْرِ.
﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ ﴾؛ يُلقِي الفرقةَ والعداوة بينَكم فيُخرِجَكم من بلادكم.
﴿ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾؛ أي ماذا تُشِيرُونَ عَلَيَّ في أمرهِ، ولو تَفَكَّرَ هؤلاء الْجُهَّالُ في قولهِ ذلكَ لعَلِمُوا أنه ليس بإلهٍ لافتقارهِ إلى رأيهم، ولكنَّهم لفَرْطِ جهلِهم مَوَّهَ عَلَيْهِمْ.