قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾؛ هذا مثلٌ آخر ضَرَبَهُ اللهُ تعالى لَهم أيضاً؛ معطوفٌ على المثلِ الأول؛ أي مَثَلُهُمْ كمثلِ الذي استوقدَ ناراً ومَثَلُهُمْ أيضاً كَصَيِّبٍ. قال أهلُ المعانِي: ﴿ أو ﴾ بمعنى الواو؛ يريدُ (وَكَصَيِّبٍ) كقولهِ:﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات: ١٤٧] وأنشدَ الفرَّاءُ: وَقَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى بأَنِّي فَاجِرٌ لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَاأيْ: وعليها فجُورها. ومعنى الآيةِ: مَثَلُ المنافقين مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ ﴿ كَصَيِّبٍ ﴾ أي كمَطرٍ نزلَ ﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ ليلاً على قومٍ في مَفَازَةٍ ﴿ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ كذلكَ القُرْآنُ نَزَلَ من اللهِ.
﴿ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ ﴾ أي بيانُ الفِتَنِ وابتلاءُ المؤمنينَ بالشَّدائدِ في الدُّنيا.
﴿ وَرَعْدٌ ﴾ أي زجرٌ وتخويفٌ.
﴿ وَبَرْقٌ ﴾ أي تِبْيَانٌ وتَبْصِرَةٌ. فجَعل أصحابُ المطر أصابعَهم في آذانِهم من الصَّواعقِ مخافةَ الهلاكِ، كذلك المنافقونَ َكانوا يجعلون أصابعهم في آذانِهم من بيانِ القُرْآنِ ووعدهِ ووعيدهِ وما فيه من الدُّعاءِ إلى الجِهَادِ مخافةَ أن يُقْتَلُوا في الجهادِ. ويقال: مخافةَ أن تَميل قلوبُهم إلى ما في القُرْآنِ. وعنِ الحسن أنه قالَ: (في الآيَةِ تَشْبيْهُ الإسْلاَمِ بالصَّيِّب؛ لأَنَّ الصَّيِّبَ يُحْيي الأَرْضَ، وَالإسْلاَمُ يُحْيي الْكُفَّارَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ ﴾[الأنعام: ١٢٢].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَصَيِّبٍ ﴾ أي كأصحاب الصَّيِّب؛ لاستحالةِ تشبيهِ الحيوان بالصيِّب تَمثيل العاقلِ بغير العاقلِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ ﴾ جمعُ صَاعِقَةٍ: وهي صَوْتٌ وبَرْقٌ فيه قطعةٌ من النار لا تأتِي على شيءٍ إلا أحرقتُهُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ كل مَا عَلاكَ فهو سَماءٌ؛ والسماءُ تكونُ واحداً وجمعاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ ﴾[البقرة: ٢٩].
وَقِيْلَ: هو جمعٌ وَاحِدُهُ: سَمَاوَةٌ؛ والسَّماواتُ جمعُ الجمعِ، مثل جَرَادَةٍ وَجَرَادٍ وَجَرَادَاتٍ. والسَّماءُ تذكَّر وتؤنَّث، قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾[المزمل: ١٨] و﴿ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ ﴾[الانفطار: ١].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ ﴾ أي في الصيِّب؛ وقيل في الليلِ: كنايةٌ عن غير مذكورٍ. وظلماتٌ: جمع ظُلْمَةٍ؛ وضمُّه اللام على الاتباعِ لضمةِ الظاء. وقرأ الأعمشُ: (ظُلْمَاتٌ) بسكون اللام على أصلِ الكلام؛ لأنَّها ساكنةٌ في التوحيدِ. وقرأ أشهبُ العقيلي: (ظُلَمَاتٌ) بفتحِ اللام؛ لأنه لَمَّا أرادَ تحريكَ اللام حرَّكها إلى أخفِّ الحركات؛ كقولِ الشاعرِ: فَلَمَّا رَأوْنَا بَادِياً رُكْبَانُنَا عَلَى مَوْطِن لاَ تَخْلِطَ الْجَدَّ بالْهَزَلِقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَعْدٌ ﴾ الرعدُ: هو الصوتُ الذي يخرج من السحاب.
﴿ وَبَرْقٌ ﴾ وهي النارُ التي تخرج منه. قال مجاهدُ: (الرَّعْدُ: مَلَكٌ يُسَبحُ بِحَمْدِهِ؛ وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْمَلَكِ: رَعْدٌ، وَلِصَوْتِهِ أيْضاً رَعْدٌ). وقال عِكْرِمَةُ: (الرَّعْدُ: مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بالسَّحَاب يَسُوقُهَا كَمَا يَسُوقُ الرَّاعِي الإبلَ). وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبَ: (هُوَ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ كَمَا يَزْجُرُ الرَّاعِي الإبلَ). والصواعقُ أيضاً الْمَهَالِكُ؛ وهي جمع صَاعِقَةٍ؛ والصاعقةُ والصَّامِعَةُ وَالْمَصْعَمَةُ: كالهلاكُ. ومنه قيل: صُعِقَ الإنسانُ إذا غشيَ عليه؛ وصُعِقَ إذا ماتَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ ﴾؛ أي مخافةَ الموتِ. وهو نُصِبَ على المصدر. وقيل: بنَزعِ الخافضِ. وقرأ قتادةُ: (حَذِيْرَ الْمَوْتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ ﴾؛ أي عالِمٌ بهم؛ يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾[الطلاق: ١٢].
وقيل: معناهُ: والله مهلِكُهم وجامِعُهم في النار؛ دليلهُ﴿ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾[يوسف: ٦٦] أي تُهلكوا جميعاً.