قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ ﴾؛ رُوي أنَّ هذه الآيةَ نزلت في عيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ، كَانَ أسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أُمِّهِ وَأخَوَيْهِ لأُمِّهِ وَهُمَا أبُو جَهْلٍ وَالْحَارثِ. فَخَرَجَ عَيَّاشُ بَعْدَ مَا أعْلَنَ إسْلاَمَهُ هَارباً إلَى الْمَدِيْنَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبيِّ صلى الله عيله وسلم، وَبَلَغَ أُمَّهُ الْخَبَرَ فَجَزِعَتْ جَزَعاً شَدِيْداً، وَامْتَنَعَتْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرََاب، فَخَرَجَ أخَوَاهُ وَقَوْمَهُ فِي طَلَبهِ، فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ، وَحَلَفَتْ أُمُّهُ أسْمَاءُ بنْتُ مَخْرَمِ بْنِ أبي جَنْدَلٍ باللهِ: لاَ أحُلُّكَ مِنْ وثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ، ثُمَّ أقْبَلَتْ تَجْلِدُهُ بالسِّيَاطِ وَتُعَذِّبُهُ حَتَّى كَفَرَ جَزَعاً مِنَ الضَّرْب، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. قال مقاتلُ والكلبيُّ: (لَمَّا هَاجَرَ عَيَّاشُ إلَى الْمَدِيْنَةِ خَوْفاً مِنْ أُمِّهِ وَأخَوَيْهِ، حَلَفَتْ أُمُّهُ أسْمَاءُ بنْتُ مَخْرَمِ بْنِ أبي جَنْدَلٍ ألاَّ تَأْكُلَ وَلاَ تَشْرَبَ وَلاَ تَغْسِلَ رَأسَهَا وَلاَ تَدْخُلَ بَيْتاً حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا ابْنُهَا، فَلَمَّا رَأى ابْنَاهَا أبُو جَهْلٍ وَالْحَارثُ ابْنَا هِشَامٍ - وَهُمَا أخَوَا عَيَّاشٍ لأُمِّهِ - جَزَعَهَا، فرَكِبَا فِي طَلَبهِ حَتَّى أتَيَا الْمَدِيْنَةَ فَلَقِيَاهُ. فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ: قَدْ عَلِمْتَ أنَّكَ أحَبَّ إلَى أُمِّكَ مِنْ جَمِيْعِ أوْلاَدِهَا، وَكُُنْتَ بَارّاً بهَا، وَقَدْ حَلَفَتْ لاَ تَأْكُلُ وَلاَ تَشْرَبُ وَلاَ تَدْخُلُ كِنّاً حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهَا، وَأنْتَ تَزْعُمُ أنَّ فِي دِيْنِكَ برَّ الْوَالِدَيْنِ، فَارْجِعْ إلَيْهَا فَإنَّ رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ بالْمَدِيْنَةِ هُوَ رَبُّكَ بمَكَّةَ فَاعْبُدْهُ بهَا. فَلَمْ يَزَالاَ بهِ حَتَّى أخَذ عَلَيْهِمَا الْمَوَاثِيْقَ أنْ لاَ يُحَرِّكَانِهِ وَلاَ يَصْرِفَانِهِ عَنْ دِيْنِهِ، فَأَعْطَيَاهُ الْمَوَاثِيْقَ فَتَبعَهُمَا، فَلَمَّا خَرَجُواْ بهِ مِنَ الْمَدِيْنَةِ أخَذاهُ وَأوْثَقَاهُ وَضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ حَتَّى تَبْرَّأ مِنْ دِيْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم جَزَعاً مِنَ الضَّرْب. وَكَانَ الْحَارثُ أشَدَّهُمَا عَلَيْهِ وَأسْوَأهُمَا قَوْلاً فِيهِ، فَحَلَفَ عَيَّاشُ باللهِ لَئِنْ قَدِرَ عَلَيْهِ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَلَمَّا رَجَعُواْ إلَى مَكَّةَ مَكَثُواْ حِيْناً، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، فَهَاجَرَ عَيَّاشُ وَأسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلاَمُهُ. ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى وَفَّقَ الْحَارثَ بْنَ هِشَامٍ فَهَاجَرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَبَايَعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلاَمِ، وَلَمْ يَحْضُرْ عَيَّاشُ، فلَقِيَهُ عَيَّاشُ يَوْماً بظَهْرِ قِبَاء وَلَمْ يَعْلَمْ بإسْلاَمِهِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ يَظُنُّ أنَّهُ كَافِرٌ، فَقِيْلَ لَهُ: إنَّهُ قَدْ أسْلَمَ، فَنَدِمَ وَاسْتَرْجَعَ وَبَكَى، ثُمَّ أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ﴾[النساء: ٩٢].
ومعنَى الآيةِ: ومِن الناسِ مَن يقولُ آمَنَّا باللهِ، فإذا عُذِّبَ في طاعةِ الله جَعَلَ تعذيبَ الناسِ كتعذيب الله، فأطاعَ الناسَ خوفاً منهم، كما يطيعُ الله مَن خافَ عذابَهُ. قولهُ: ﴿ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾؛ أي إذا جاء فَتْحٌ مِِن ربكَ ﴿ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ وهذه صفةُ المنافقين، يقولُ اللهُ تعالَى: ﴿ أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي بما في قلُوب الْخَلْقِ من الطُّمأنينَةِ بالإيْمانِ والانشراحِ بالكُفرِ.
﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ أي لِيَجْزِيَ اللهُ المؤمنين.
﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾؛ ولَيُمَيِّزَنَّ المنافقينَ.


الصفحة التالية
Icon