قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾؛ أي هو أشْفَقُ وأبَرُّ وأحقُّ بالمؤمنين مِن بعضهم ببعضٍ، وهو أولَى بكلِّ إنسانٍ منه بنفسهِ. وَقِيْلَ: معناهُ: إذا حَكَمَ فيهم بشيءٍ نَفَذ حكمهُ فيهم، ووجبَتْ طاعتهُ عليهم. وقال ابنُ عبَّاس: (إذا دَعَاهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى شَيْءٍ، وَدَعَتْهُمْ أنْفُسُهُمْ إلَى شَيْءٍ، كَانَتْ طَاعَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ أنْفُسِهِمْ). وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ طَاعَتُهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ). وقال الحكماء: النبيُّ أولَى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم لأنفُسِهم، تدعُوهم إلى ما فيه هلاكُهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما فيهِ نَجاتُهم. وقال أبُو بكرٍ الورَّاق: (لأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَقْلِ، وَأنْفُسُهُمْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهَوَى). وقال بَسَّامُ بنُ عبدِالله: (لأَنَّ أنْفُسَهُمْ تُحْرَسُ مِنْ نَار الدُّنْيَا، وَالنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْرِسُهُمْ مِنْ نَار الآخِرَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾؛ أي كأُمَّهَاتِهم في تَعْظِيْمِ حَقَّهِنَّ وفي تحريم نكَاحِهن، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يتزوَّجَ بهنَّ، كما لا يجوزُ التزويجُ بالأُمِّ. ولَم يُرِدْ إثباتَ الأُميَّة من جميعِ الوُجُوهِ، ألاَ ترَى أنه لا تحلُّ رؤيَتُهن ولا يَرَيْنَ المؤمنين بخلافِ الأُمَّهات، وكذلك لا يخلُو بهنَّ، ولا يسافرُ بهم، ولا يرثُهن ولا يرِثونَهُ، ولو كنُ كالأُمَّهات من جميعِ الوجوه لكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يزوِّجُ بناتَهُ من أحدٍ مِن الناسِ؛ لأن البناتَ يكُنَّ أخَواتِ المؤمنينَ. ومِن هذا المعنى ما رُوي: أنَّ امْرَأةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: يَا أُمِّ، قَالَتْ: (لَسْتُ لَكِ بأُمٍّ، إنَّمَا أنَا أُمُّ رجَالِكُمْ) فبَانَ بهذا أنَّ معنى الأُمومَةِ تحريمَ نكاحِهن فقط. ولِهذا لا يجوزُ أن يقالَ لبنَاتِهن أنَّهن أخواتُ المؤمنينَ. وفائدةُ تحريمِ نكاح أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على المؤمنين في حياتهِ وبعد وفاتهِ تعظيمُ أمرهِ وتفخيمُ شأْنِه، ولذلكَ حَرُمَ على الابنِ نكاحُ امراةِ أبيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي وذوُ القرابةِ بعضُهم أحقُّ بميراث بعضٍ في حُكمِ اللهِ.
﴿ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ ﴾؛ إذا لَم يكونوا قرابةً، وذلك أنَّهم كانوا يتوَارَثُونَ في ابتداءِ الإسلامِ بالهجرةِ والْمُوَآخَاةِ. قال الكلبيُّ: (آخَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُوَآخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَإذا مَاتَ أحَدُهُمْ وَرثَهُ الثَّانِي دُونَ عُصْبَتِهِ وَأهْلِهِ، فَمَكَثُواْ كَذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ ﴿ وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ الََّذِيْنَ آخَا رَسُولُ اللهِ بَيْنَهُمْ وَالْمُهَاجِرِيْنَ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ الْمُوَارَثَةَ بالْمُوَآخاةِ وَالْهِجْرَةِ، وَصَارَتْ لِلأَدْنَى فَالأَدْنَى مِنَ الْقَرَابَاتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾؛ ﴿ مَّعْرُوفاً ﴾ استثناءٌ ليس مِن الأول، ومعناهُ: لكن فِعْلُكم إلى أوليائِكم جائزٌ، يريدُ أن يُوصِي الرجلُ لِمَنْ يتوَلاَّهُ ممن لا يرثهُ بما أحبَّ من ثُلْثِ مالهِ، فيكونُ الموصَى له أولَى بقدر الوصيَّة من القريب الوارث، وقال ابنُ زيدٍ: (مَعْنَاهُ إلاَّ أنْ تُوصُواْ لأَوْلِيَاءِكم مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾؛ أي كانَ الميزانُ للأقرباءِ، والوصيةُ للأصدقاءِ، ونُسِخَ الميراثُ بالهجرةِ ورَدَّهُ إلى ذوي الأرحامِ مَكتوباً في اللَّوح المحفوظِ.