قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ﴾؛ أي مِن جُملة المؤمنينَ رجالٌ وَافوا ما عاهدُوا اللهَ عليه بالثَّباتِ على الدِّين والعملِ بمُوجبهِ من الصَّبر على القتالِ وغيرِ ذلك.
﴿ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ ﴾؛ أي مَن وَفَّى بنذرهِ، ومنهم مَن أقامَ على ذلك العهدِ حتى قُتِلَ شَهيداً في سبيلِ الله. قِيْلَ: إنَّ المرادَ به حَمْزَةُ ابن عبدِ المطَّلب وأصحابهُ الذين قُتِلُوا يومَ أُحُدٍ. والنَّحْبُ في اللُّغة: النَّذْرُ، وَقِيْلَ: النَّحْبُ هو النَّفَسُ، ومنه النَّحِيْبُ: وهو التَّنَفُّسُ الشديدُ والنَّشْجُ في البكاءِ. والمعنى على هذا القولِ: (مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾؛ الموتَ على ذلك العهدِ. وَقِيْلَ: معناهُ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) أي ماتَ أو قُتِلَ في سبيلِ الله فأدركَ ما تَمنَّى، فذلك قضاءُ النَّحْب. وَقِيْلَ: فَرَغَ من عملهِ، ورجعَ إلى اللهِ. وقال الحسنُ: (قَضَى أجَلَهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَالصِّدْقِ)، قال ابنُ قُتيبةَ: (قَضَى نَحْبَهُ: قُتِلَ). وأصلُ النَّحْب: النَّذْرُ، كان قومٌ نذرُوا أنَّهم إنْ لَقُوا العدوَّ قَاتَلُوا حتى يُقْتَلُوا أو يَفتحَ اللهُ تعالى فَقُتِلُوا. يقال: فلانٌ قَضَى نَحْبَهُ، إذا قُتِلَ. وقال محمَّد بنُ اسحاقٍ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ نَصْرٍ أوْ شَهَادَةٍ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ أصْحَابُهُ). وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالَتْ:" طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللهِ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ، ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُصِيْبَتْ يَدُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أوْجَبَ طَلْحَةُ الْجَنَّةَ " "وعن أبي نَجيحٍ: أنَّ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍِ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَبَلِ، فَجَاءَ سَهْمٌ مُتَوَجِّهٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَاتَّقَاهُ طَلْحَةُ بيَدِهِ فَأَصَاب خِنْصَرَهُ. وعن عائشةَ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ سََرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ، فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ "وَقالَ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى شَهِيْدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللهِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ﴾؛ أي ما غيَّرُوا عهدَ اللهِ الذي عاهَدُوه عليهِ كما غَيَّرَهُ المنافقونَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ﴾؛ أي صِدْقَ المؤمنونَ في عهدِهم ليجزِيَهم اللهُ بصدقِهم.
﴿ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾؛ بنقضِ العهدِ.
﴿ إِن شَآءَ ﴾؛ قال السديُّ: (يُمِيْتُهُمُ اللهُ عَلَى نِفَاقِهِمْ إنْ شَاءَ فَيُوجِبُ لَهُمُ الْعَذابَ). فمعنى شَرْطِ المشيئةِ في عذاب المنافقين إمَاتَتُهُمْ على النفاق إنْ شاءَ ثُم يعذِّبُهم.
﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾؛ فيغفرُ لَهم، ليس أنه يجوزُ أن لا يُعذِّبَهم إذا مَاتُوا على النِّفاقِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً ﴾؛ لِمَن تابَ ﴿ رَّحِيماً ﴾؛ بمن ماتَ على التَّوبةِ.


الصفحة التالية
Icon