قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾؛ أي وَيَجْعَلَهُ بعدَ ثلاثين سنةً رسولاً إلى بني إسرائيلَ؛ ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ ﴾؛ بعلامةٍ؛ ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾؛ لِنُبُوَّتِي، وقيلَ: ﴿ وَرَسُولاً ﴾ عطفاً على ﴿ وَجِيْهاً ﴾.
وكان أولُ أنبياءِ بني إسرائيلَ يوسُف عليه السلام وآخرَهم عيسى عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ ﴾؛ قرأ نافعُ (إنِّي) بالكسرِ على الاستئناف وإضمار القولِ، وقرأ الباقون بالفتحِ. ومعنى الآيةِ: أنِّي أقدرُ لكم من الطينِ صورةً كهيئة الطيرِ فأنفخُ في الطينِ كنفخِ النائم فيصيرُ طيراً يطيرُ بينَ السماء والأرضِ بأمرِ الله عَزَّ وَجَلَّ، ويقرأ (طَائِراً) إلاَّ أنَّ هذا أحسنَ؛ لأن الطائرَ يرادُ به الحالُ. قرأ الزهريُّ وأبو جعفرَ (كَهَيَّةِ الطَّيْرِ) بالتشديدِ، وقرأ الآخرون بالهمزِ. وَالْهَيْئَةُ: الصورةُ الْمُهَيَّئَةُ من قولِهم: هَيَّأْتُ الشَّيْءَ إذا أصلحتُه. وقرأ أبو جعفر: (كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ) بالألف. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ قرأ عامَّة القرَّاء (طَيْراً) على الجمع لأنه يَخْلُقُ طيراً كثيرةً، وقرأ أهلُ المدينة (طَائِراً) بالألفِ على الواحدِ ذهبوا إلى نوعٍ واحد من الطَّير لأنه لم يخلق إلاَّ الْخُفَّاشَ، وإنَّما خَصَّ الْخُفَّاشَ لأنَّه أكملُ الطيرِ خَلْقاً ليكون أبلغَ في القدرةِ لأنَّ لها ثَدْياً وأسْنَاناً؛ وهي تحيضُ وتطهرُ، قال وهب: (وَهِيَ تَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا، فَإذا غَابَت عَنْ أعْيُنِهِمْ سَقَطَتْ، ولأنَّهَا تَطِيرُ بغَيْرِ رِيْشٍ وتَلِدُ وَلاَ تَبيضُ). وروي أنَّهم ما قالوا لعيسى أخْلُقْ لَنَا خُفَّاشاً إلا مُتعنِّتين له؛ لأجلِ مخالفته الطيورَ بهذه الأخبار التي ذكرنَاها. فلمَّا قالوا لهُ أخْلُقْ لنا خُفَّاشاً؛ أخذ طيناً ونفخَ فيه فإذا هو خُفَّاشٌ يطيرُ بين السماء والأرض، فقالوا: هذا سِحْرٌ؛ فقال: أنا؛ ﴿ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ فقالوا: إنَّ إبراءَ الأكمَهَ والأبرَصَ يفعلهُ أطبَّاؤُنا، فذهبوا إلى جَالِينُوسَ فأخبروهُ بذلكَ، فقالَ: إنَّ الَّذِي وُلد أعمى لا يبصرُ بالعلاجِ، والأبرصُ الذي لو غَرِزَتْ إبرةٌ لا يخرج منه الدمُ لا يبرأ بالعلاجِ، وإنْ كانَ يُحيي الموتَى فهو نبيٌّ. فجاؤُا بأكْمَهٍ وأبرَصِ فمسحَ عليهما فَبَرَءا، فقالُوا: هذا سحرٌ؛ فإنْ كنتَ صادقاً فأحيي الموتَى، فأحيَا أربعةً من الموتى: الْعَازَرُ وكان صَدِيقاً له، فأرسلَت أختُه إلى عيسى: أنَّ أخاكَ العازَرَ مَاتَ فأتاهُ، وكان بينَهما مسيرةُ ثلاثةِ أيام، فأتى هو وأصحابُه فوجدوه قد دُفِنَ منذُ ثلاثةِ أيَّام؛ فقامَ على قبرهِ وقالَ: اللَّهُمَّ ربُّ السماواتِ السَّبع والأرضين السَّبع أحيْي العازَرَ مِن قبرهِ وودكه يقطر، فخرجَ وبقيَ مدَّة طويلةً وَوُلِدَ لهُ. وأحيَا ابنَ العجوز، مرَّ بهِ وهو على سريرٍ يُحمل على أعناقِ الرِّجال إلى المقابرِ، ودعا اللهَ تعالى أن يجيبَه، فجلسَ على سريرهِ وأنْزِلَ عن أعناق القوم، ولبسَ ثيابَهُ وحَمَلَ السريرَ على عنقهِ، ورجعَ إلى أهلهِ فبقيَ مدَّة ووُلِدَ له. وأحيا ابنةَ العَاشِرِ بعد موتِها بثلاثةِ ليالٍ، فعاشَت مدَّة وَوَلَدَتْ. فقالوا لهُ: إنكَ تُحْيي مَن كان قريباً موتهُ ولعلَّهم لم يَمُوتُوا فأحيي لنا سَامَ بْنَ نُوحٍ، فقال: دُلُّونِي على قبرهِ فدلُّوه، فدعَا اللهَ تعالى أن يُحييه فخرجَ من قبرهِ، فقال لهُ عيسى عليه السلام: مَنْ أنْتَ؟ قالَ: سامُ بْنُ نُوحٍ، قالَ: ومَنْ أنَا؟ قال: عيسَى روحُ اللهِ وكَلِمَتُهُ، قال: كَيْفَ شِبْتَ يا سامُ ولم يكن في زمانِكم شَيْبٌ، قال: سَمِعْتُ صَوتاً يقولُ أجِبْ روحَ اللهِ فظننتُ أنَّ القيامةَ قد قامت فشَابَ رأسي مِنْ هَوْلِ ذلك، وكان سامُ قد عاشَ خمسمائةَ سنةٍ، وماتَ وهو شابٌّ، فقال لهُ عيسى عليه السلام: يا سامُ أتُحِبُّ أن أسألَ اللهَ حتى تعيشَ معنا؟ قال: لاَ، قالَ: لِمَ لا؟ قال: لأنَّ مرارةَ الموتِ لم تذهب من قَلْبِي إلَى الآن. وكان لهُ من يوم ماتَ أكثرُ من أربعةِ آلاف سنةٍ ثم ماتَ مكانه. فآمنَ بعيسى بعضُهم وكذبه بعضهم، وقالوا: هذا سِحْرٌ، فأخبرنا بأكْلِنا وادِّخارنا، فكان يقولُ: أنتَ يا فلانُ أكلتَ كذا وادخرتَ كذا، وأنتَ يا فلان أكلتَ كذا وادخرتَ كذا. فذلكَ قَوْلُهُ: ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾؛ أي بما تأكلونَه وما تدفعوهُ في بيوتِكم حتى تأكلوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ ﴾ اختلفوا في الأَكْمَهِ، قال مجاهدُ والضحَّاك: (هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بالنَّهَار دُونَ اللَّيْلِ)، وقال ابنُ عبَّاس وقتادة: (هُوَ الَّذِي وُلِدَ أعْمَى ولَمْ يُبصِرْ شَيْء قَطْْ). وقال الحسن والسدِّي: (هُوَ الأعْمَى الْمَعْرُوفُ). (وَالأَبْرَصَ): هُوَ الَّذِي بهِ وَضَحٌ. وقال وَهَبٌ: (رُبَّمَا اجْتَمَعَ عَلَى عِيْسَى مِنَ الْمَرْضَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ خَمْسُونَ ألْفاً مَنْ أطَاقَ مِنْهُمْ أنْ يَبْلُغَهُ بَلَغَهُ، وَمَنْ لَمْ يُطِقْ أتَاهُ عِيْسَى يَمْشِي إلَيْهِ، وَإنَّمَا كَانَ يُدَاويْهمْ بالدُّعَاءِ عَلَى شَرْطِ الإيْمَانِ). قال الكلبيُّ: (كَانَ عِيْسَى يُحيْي الْمَوْتَى بـ (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ)). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ ﴾ أي أخبرُكم بما تأكلونَ غَدْوَةً وَعَشِيّاً وما تدفعونَ من الغداءِ إلى العشاء، ومن العَشاء إلى الغداء. وقرأ مجاهدُ (وَمَا تَذْخَرُونَ) بذالٍ معجمة ساكنة وفتح الخاء. قال السديُّ: (كَانَ عِيْسَى إذا كَانَ فِي الصِّبْيَانِ مَعَ الْمُعَلِّمِ يُحَدِّثُ الصِّيْبَانَ بمَا يَصْنَعُ آبَاؤُهُمْ وَيَقُولُ لِلصَّبيِّ: انْطَلِقَ فَقَدْ أكَلَ أهْلُكَ كَذَا وَكَذا وَهُمْ يأكُلُونَ السَّاعَةَ كَذا، فَيَنطَلِقُ الصَّبِيُّ إلَى أهْلِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ ذلِكَ الشَّيْءَ حَتَّى يُعْطُوهُ إيَّاهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: مَنْ أخْبَرَكَ بهَذا؟ فَيَقُولُ: عِيْسَى، فَحَبَسُواْ أوْلاَدَهُمْ عَنْهُ وَقَالُواْ لاَ تَلْعَبُواْ مَعَ هَذا السَّّاحِرِ، فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ، فَجَاءَ عِيْسَى يَطْلُبُهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: لَيْسُوا هُنَا، قَالَ: فَمَا فِي هَذا الْبيْتِ؟ قَالُوا: خَنَازيْرُ، فَقَالَ عِيْسَى: كَذلِكَ يَكُونُونَ إنْ شَاءَ اللهُ، فَفَتَحُواْ عَنْهُمْ فَإذا هُمْ خَنَازِيْرُ بأجْمَعِهِمْ، فَهَمُّوا بعِيْسَى أنْ يَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ أمُّهُ حَمَلَتْهُ عَلَى حِمَارٍ لَهَا وَخَرَجَتْ بهِ هَارِبَةٌ إلَى مَفَازَةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ أي إنَّ ما قُلْتُ لكم علامة لكم في نُبُوَّتِي إنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيْنَ بالله عَزَّ وَجَلَّ.