قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، هذا مثلٌ آخرُ للمنافقين؛ وسَبَبُهُ لَمَّا ذكرَ اللهُ في المنافقين المَثَلَين المتقدِّمَين قالُوا: إنَّ اللهَ تعالَى أجلُّ وأعلَى من أَن يَضْرِبَ هذه الأمثالَ؛ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ لأن البعوضةَ تَحيى ما دامَتْ جائعةً فإذا شبعَتْ هلكت؛ فكذلك المنافقونَ يَحْيَوْنَ ما افتَقَرُوا وإذا شَبعُوا بَطِرُواْ وهَلَكُوا. فكأنَّهُ قالَ تعالى: كيفَ أستَحِي مِن ضَرْب الْمَثَلِ في المنافقِين وأَنَا أضربهُ بالبعوضِ الذي هو مِثلُهم. وَقِيْلَ: إنَّ المشركينَ لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً ﴾[الحج: ٧٣].
وقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ﴾[العنكبوت: ٤١] قالُوا: إن اللهَ تعالَى يضربُ المثلَ بالذُّباب والعنكبوتِ؛ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ كأنهُ قال: لا أستحِي بضرب المثلِ بالبعوض والعنكبوت مع صِغَرِهما فإنَّهما يُعْجِزَانِ آلِهَتَهم. ومعنى الآيةِ: أنَّ اللهَ لا يَمنعهُ الحياءُ أن يضربَ الحقَّ شَبَهاً ما بعوضةً فما أكبرَ منها مثلَ الذُّباب وغيرهِ. وَقِيْلَ: فما فوقَها في الصِّغَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾؛ أي فيعلمون أنَّ المثلَ حقٌّ من ربهم؛ وأما الكافرون فيقولون: أيَّ شيءٍ أرادَ الله بذِكْرِ البعوضِ والذباب مثلاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: يُضِلُّ ويَخْذِلُ بالمثلِ كثيراً من الناس، ويوفِّقُ لمعرفته كثيراً.
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ ﴾؛ يعني الخارجينَ عن طاعة اللهِ. قيل: همُ اليهودُ في هذه الآية. وأمَّا في قولهِ: ﴿ مَثَلاً مَّا ﴾ قيل: نكرةٌ معناه أن يضربَ مِثالاً شيئاً من الأشياء بعوضةً فما فوقها. وقيل: الأصحُّ أنَّها زائدةٌ مثل﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾[النساء: ١٥٥] ولا إعرابَ لها فيتخطَّاها الناصبُ والخافضُ إلى ما بعدها. وقيل: نصبَ بعوضَةً على معنى ما بين بعوضةٍ إلى ما فوقها؛ فإذا ألْقَى (بين) و(إلى) نصبَ. ويقالُ في الكلام: هي أحسنُ الناسِ ما قرناً، ومَدُّ (مَا). قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ مَثَلاً ﴾ نُصِبَ على القطعِ عند الكوفيِّين؛ غيرَ أنَّه قُطِعَ الإضافةَ؛ أي بهذا المثلِ. وعند البصريِّين على الحالِ؛ أيْ ما أرادَ اللهُ بالمثل في هذه الحالةِ.


الصفحة التالية
Icon