قًوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ ٱلرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾؛ الآيةُ، وذلكَ أنَّ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ قَالُواْ: قَدِ الْتَبَسَ عَلَيْنَا أمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلاً عَالِماً بالشِّعْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالسِّحْرِ فَأَتَاهُ وَكَلَّمْنَاهُ، وَأتَانَا ببَيَانِ أمْرِهِ. فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبيْعَةَ: وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالْكَهَانَةَ وَالسِّحْرَ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذلِكَ عِلْماً لاَ يَخْفَى عَلَيَّ إنْ كَانَ كَذلِكَ. فَمَضَى عُتْبَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْحَطِيْمِ، فَكَلَّمَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً إلاَّ قَالَهُ، وََكَانَ عُتْبَةُ مِنْ أحْسَنِ النَّاسِ حَدِيْثاً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أنْتَ خَيْرٌ أمْ هَاشِم؟ أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ الْمُطََّلِب؟ أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ اللهِ؟ فِيْمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا؟ فَإنْ كَانَ ذلِكَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ عَقَدْنَا لَكَ ألْوِيَتَنَا وَكُنْتَ رَأسَنَا مَا بَقِيْتَ، وَإنْ كَانَ لَكَ الْبَاءهُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ مِمَّنْ تَخْتَارُ مِنْ بَنَاتِ قُرَيْشٍ، وَإنْ كَانَ بكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بهِ أنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لاَ يَتَكَلَّمُ. فَلَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنْ كَلاَمِهِ قَرَأ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ﴿ حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ... ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾.
فَوَثَبَ عُتْبَةُ فَزَعاً مَخَافَةَ أنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ الَّذِي خَوَّفَهُ بهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى قَوْمَهُ مَذْعُوراً وَأقْسَمَ لاَ يُكَلِّمُ مُحَمَّداً بَعْدَهَا أبَداً. فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ: لَعَلَّكَ صَبَوْتَ إلَى مُحَمَّدٍ، وَمَا ذاكَ إلاَّ مِنْ حَاجَةٍ أصَابَتْكَ، وَإنْ كَانَ بكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا مَا يُغْنِيْكَ عَنْ مُحَمَّدٍ! فَغَضِبَ عُتْبَةُ وَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ كَانَ أبي مِنْ أكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالاً، وَلَكِنْ أتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَجَابَنِي بشَيْءٍ وَاللهِ مَا هُوَ بشِعْرٍ وَلاَ كَهَانَةٍ وَلاَ سِحْرٍ، وَاللهِ مَا اهْتَدَيْتُ لِجَوَابهِ. فَقَالَ حَرْثُ بْنُ عَلْقَمَةَ: وَاللهِ لَقَدْ أفْسَدَ هَذا الرَّجُلُ دِيْنَنَا وَفَرَّقَ بَيْنَ كَلِمَتِنَا، وَأيْمِ اللهِ لَئِنْ بَقِيَ هَذا الرَّجُلُ وَيُقِيْمُ لَيَكُونَنًّ بَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا، وَسَيَبيْنُ ذلِكَ لَكُمْ إذا خَرَجَ مِنْكُمْ إلَى غَيْرِكُمْ، فَذرُوهُ مَا تَرَكَكُمْ. ومعنى الآيةِ: فإنْ أعرَضُوا عنِ الإيْمَانِ بكَ ولَمْ يقبَلوا قولكَ بعد هذا البيانِ، فقُلْ: خوَّفْتُكم عَذاباً مثلَ عذاب قوم هودٍ وقوم صالِح. والصَّاعِقَةُ: هو الهلاكُ على حالةٍ هائلةٍ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِذْ جَآءَتْهُمُ ٱلرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ أي إذا جاءتهم الرسلُ إلى مَن كان قبلَهُم فعلِمُوا بتواترِ الأخبار. ثم إنَّهم الرسلُ أيضاً من خَلَفِ مَن كان قبلَهم بأن لا يعبدُوا إلاّ اللهَ.
﴿ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً ﴾؛ أي لو شاءَ رَبُّنا أنْ ينَزِّلَ إلينا رسُولاً لأنزلَ ملائكةً من جُندهِ.
﴿ فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾؛ ما أنتم إلاّ بشرٌ مثلُنا. ويجوز أن يكونَ معنى ﴿ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ بأن الرُّسُلَ أتَتْهُمْ من جميعِ جِهاتِهم.