قوله تعالى: ﴿ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ﴾؛ وذلك أنَّ الْمُشْرِكِينَ بَالَغُوا فِي إيْذاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويَئِسَ مِنْ إيْمَانِهِمْ بهِ ودعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ، فَأَخَذتْهُم السَّنَةُ حَتَّى أكَلُوا الْجِيَفَ وَالْكِلاَبَ وَالْعِظَامَ الْمُحَرَّقَةَ مِنَ الْجُوعِ، وَارْتَفَعَ الْقَطْرُ وَأجْدَبَتِ الأَرْضُ، وَكَانُواْ إذا نَظَرُواْ إلَى السَّمَاءِ رَأوا دُخَّاناً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي غَشِيَتْ أعْيُنَهُمْ وأبْصَارَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ. ويقال: يَبسَتِ الأرضُ وانقطعَ الغيثُ. والمعنى: فانتظِرْ يا مُحَمَّدُ يومَ تأتِي السَّماءُ بدُخَانٍ مُبينٍ،" فَجَاءَ أبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بصِلَةِ الرَّحِمِ وَإنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُواْ، فَادْعُ اللهَ لَهُمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ دَعَوْتُكَ فَأَجَبْتَنِي، وَسَأَلْتُكَ فَأَعْطََيْتَنِي، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيْثاً مَرِيّاً مَرِيعاً طَبَقاً عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ نَافِعاً غَيْرَ ضَارٍّ "، فَمَا بَرِحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أنْزَلَ اللهُ الْمَطَرَ. وَجَاءَ النَّاسُ يَشْتَدُّونَ وَقَالُواْ: الْغَرَقُ الْغَرَقُ، فَقَرَأ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ﴿ إنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ﴾ فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الشِّدَّةَ، ثُمَّ عَادُوا إلَى الْكُفْرِ "فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴾؛ وذلك يومُ بدرٍ.
﴿ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴾.
وهذا التأويلُ إنما يستقيمُ على قولِ ابن مسعودٍ فإنه كان يقولُ: (خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَّانُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ) وكان يذهبُ إلى أنَّ البطشةَ الكُبرَى هي التي أصابَتْهُم يومَ بدرٍ، وذلك أعظمُ من الجوعِ الذي أصابَهم بمكَّةَ. وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المرادَ بالدُّخان في هذه الآياتِ: الدخَّانُ الذي يُنْزِلهُ اللهُ تعالى عندَ قيامِ الساعة، ثم يغشَاهُم عذابٌ أليم بعدَ ذلك، كما رُوي عن مسروقٍ أنه قالَ: (إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ دُخَّانٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَخَذ بأَسْمَاعِ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَأبْصَارهِمْ حَتَّى تَصِيرَ رُؤُوسُهُمْ كَالرَّأسِ الْحَنِيذِ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ بمَنْزِلَةِ الزُّكَامِ). فعلى هذا القولِ يكون معنى قولهِ تعالى: ﴿ أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ ﴾ أي مِن أين لَهم الذِّكرَى، أي مِن أين ينفعُهم إيمانُهم ﴿ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ﴾ في الوقتِ الذي كانوا مكلَّفين فيه ثُمَّ أعرَضُوا عن الإيمانِ به ﴿ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴾ أي هو معلِّمٌ يعلِّمهُ الجنُّ، ويعترِضُون له. وَقِيْلَ: معناهُ: يعلِّمهُ بشَرٌ مجنونٌ بادِّعائهِ النبوَّةَ. ويكون معنى قولهِ: ﴿ إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ ﴾ أي عذابَ الدُّنيا بعد مجيءِ الرسولِ إلى وقت الدُّخان، فمَهَّلَهُم لكي يتُوبُوا، ولن يتُوبُوا. والمرادُ بالبطشةِ الكُبرَى على هذا القولِ يومُ القيامةِ، وأما على القولِ الأوَّلِ فقولهُ: ﴿ أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ ﴾ أي التذكُّر والاتِّعاظُ، يقولُ: كيف يتذكَّرُون ويتِّعِظون، وحالُهم أنه قد جاءَهم رسولٌ مُبينٌ ظاهرُ الصِّدقِ والدلالة.
﴿ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ ﴾ أي أعْرَضُوا ولَمْ يقبَلُوا قولَهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّا كَاشِفُو ٱلْعَذَابِ ﴾ يعني عذابَ الجوعِ ﴿ قَلِيلاً ﴾ أي زَمَاناً يَسِيراً، قال مقاتلُ: (يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ إنَّكُمْ عَائِدُونَ فِي كُفْرِكُمْ وَتَكْذِيبكُمْ) وفيه إعلامٌ أنَّهم لا يتَّعِظُون، وإنه إذا رُفِعَ عنهم العذابُ عادُوا إلى طُغيانِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴾ أي واذكُرْ لَهم ذلك اليومَ، يعني يومَ بدرٍ.