قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ﴾؛ نزَلت في نفَرٍ من قريشٍ قالوا حِينَ سَمعوا أذانَ بلالٍ: أمَا وجدَ مُحَمَّدٌ مؤذِّناً غيرَ هذا الغُراب؟ والمعنى: يا أيُّها النَّاسُ إنا خلَقنَاكم من آدمَ وحوَّاء، فكلُّكم مُتساوون في النَّسب، لأنَّ كلَّكم يرجعُ إلى أبٍ واحد وأُمٍّ واحدةٍ. ومعنى الآيةِ: الزَّجرُ عن التفاخُر بالأنساب، قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّمَا أنْتُمْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأةٍ وَاحِدَةٍ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أحَدٍ فَضُلٌ إلاَّ بالتَّقْوَى ". ثُم ذكرَ أنه إنما فرَّقَ أنسابَ الناسِ ليتعَارفُوا لا ليتفَاخَرُوا فقالَ تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ ﴾؛ الشُّعوب جمعُ شَعبٍ بفتح الشِّين؛ وهو الحيُّ العظيمُ مثل رَبيعةَ ومُضَرَ، والقبائلُ دونَها وهو كبَكرٍ من ربيعةَ، وتَميم من مُضر، هذا قولُ جماعةٍ من المفسِّرين. ورَوى عطاءُ عن ابن عباس أنه قال: " يُرِيدُ بالشُّعُوب الْمَوَالِي، وَبالْقَبَائِلِ الْعَرَبَ) وإلى هذا ذهبَ قومٌ فقالوا: الشُّعوب من العجَمِ مَن لا يُعرَفُ لهم أصلُ نَسَبٍ كالهندِ والتُّرك، والقبائلُ من العرب. وَقِيْلَ: معناهُ: وجعلَكم متشَعِّبين مفرَّقين نحو العرب وفارسَ والرُّوم والهند وقبائلِ العرب وبيوتات العجَمِ. والشِّعبُ بكسرِ الشين: الطريقُ في الجبلِ، وجمعه شِعَابٌ. والحاصلُ أنَّ الشعوبَ رُؤوسُ القبائلِ مثلَ رَبيعةَ ومُضر والأوسَ والخزرجَ، والقبائلُ دُونَ الشُّعوب وهم كبكرٍ من ربيعةَ وتَميم من مُضر، ودونَ القبائلِ العَمَائِرُ؛ واحدَتُها عَمَارَةٌ بفتحِ العين، وهم كشَيبان من بكرٍ ودَارمِ من تَميم، ودونَ العمائرِ البطونُ؛ واحدُها بطنٌ وهو كبَني غالبٍ ولُؤَي من قريشٍ، ودونَ البُطونِ الأفخاذُ؛ واحدُها فَخْذٌ وهم بني هاشمٍ وبني أُمية من لُؤي، ثم الفصَائِلُ واحدها فَصِيلَةٌ وعشيرةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِتَعَارَفُوۤاْ ﴾ أي ليَعرِف بعضَكم بعضاً في النَّسَب لا لتُفاخِرُوا فيما بينَكم، كما أنَّ اللهَ تعالى خَالَفَ بين خَلقِكم وصُوَركم لتَعرِفُوا بعضَكم بعضاً، وقرأ الأعمشُ (لِتَعَارَفُوا) وقرأ ابنُ عبَّاس (لِتَعْرِفُوا) بغير ألفِ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾؛ (أَنَّ أَكْرَمَكُمْ) بفتحِ الألفِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾؛ معناهُ: إنَّ أكرمَكم في الآخرةِ اتقَاكُم للهِ في الدُّنيا، وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ اللهَ قَدْ أذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعْظِيمِهَا بالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ؛ وَآدَمُ مِنَ التُّرَاب؛ أكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ، لاَ فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إلاَّ بالتَّقْوَى ". وقال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللهَ " وقَالَ: " كَرَمُ الرَّجُلِ دِينُهُ وَتَقْوَاهُ، وَفَضْلُهُ عَقْلُهُ، وَحَسَبُهُ خُلُقُهُ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُوَركُمْ وَلاَ إلَى أقْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبكُمْ وَأعْمَالِكُمْ، وَإنَّمَا أنْتُمْ بَنِي آدَمَ، أكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ ". وقال ابنُ عبَّاس: (كَرَمُ الدُّنْيَا الْغِنَى، وَكَرَمُ الآخِرَةِ التَّقْوَى)، وقال الشاعرُ: مَا يَصْنَعُ الْعَبْدُ بعِزِّ الْغِنَى   وَالْعِزُّ كُلُّ الْعِزِّ لِلْمُتَّقِيمَنْ عَرَفَ اللهَ فَلَمْ تُغْنِهِ   مَعْرِفَةُ اللهِ فَذاكَ الشَّقِي


الصفحة التالية
Icon